اخبار السودان لحظة بلحظة

السودان بين خياري السلام العادل والانهيار الكامل

بقلم : أحمد حسين أدم

انقطعت عن الكتابة الراتبة لفترة، لكنى لم أنقطع البتة عن المتابعة والتفاعل اليومي مع شؤون وطني العامة، فتحديات الوطن وتطلعات أهله في تحقيق شعارات ثورته العظيمة في الحرية والسلام والعدالة، تجرى في عروقنا ومستقرة في صدورنا ووجداننا ما حيينا، فهي غايات سامية فقدنا في مسيرتها المتصلة النبيلة أعز وأشجع أبناء وبنات الوطن على طوله وعرضه.

أعود للكتابة وساحة الوطن تعج بالمشكلات والتحديات، تبدأ بالكورونا الصحية، مرورا بالكورونا الاقتصادية إلى الكورونا السياسية، حيث تمثل الأخيرة أس الداء والبلاء في السودان. لا شك، أن هنالك كثيرا من القضايا الملحة والساخنة مثل: قضية السيادة الوطنية في إطار الباب السادس من ميثاق الأمم المتحدة التي شغلت الرأي العام مؤخرا، والأزمة الاقتصادية الماحقة، والاستقطاب السياسي والاجتماعي وظاهرة تفشى العنصرية، وبعض التدخلات الاقليمية الرامية إلى افشال الانتقال السياسي والديمقراطي في السودان، وسيناريوهي الانقلاب العسكري والحرب الأهلية، إضافة إلى انحراف مسار الانتقال السياسي عن أهداف الثورة بشكل عام، وغيرها من مواضيع وقضايا مهمة.

بيد أنني في هذا المقال أحاول أن أدلو بدلوي حول قضية السلام والتي -في رأي- تمثل أهم قضية وتحدى يواجه الانتقال السياسي ومستقبل الدولة السودانية، فأما تحقيق السلام الشامل والعادل – سلام الناس والجماهير المهمشة، واما انهيار الدولة وتلاشى الكيان السوداني بكامله. لذلك، كان قادة ثورة ديسمبر المجيدة محقون حينما رفعوا شعار السلام كأحد أهم الشعارات الثلاثة التي وجهت بوصلة الثورة ضد نظام الديكتاتور البشير: الحرية والسلام والعدالة، هذا بالإضافة إلى أن قوى الحرية والتغيير والحكومة الانتقالية بشقيها التنفيذي والسيادي تزعم أن قضية السلام تعتبر أولى الأولويات في برامجها.

إذا السؤال الجوهري الذي يطرحه الجميع هو: لماذا تأخر تحقيق السلام الشامل والعادل وقد مر على الحكومة الانتقالية ما يقرب من العام في السلطة؟ لماذا تأخر السلام، بينما كل القوى السياسية التي ورثت نظام البشير داخل الحكومة وخارجها تتشدق بشعارات السلام؟ لماذا تأخر السلام الشامل والعادل في حين أن حركات الكفاح المسلح والقوى المدنية الأخرى يجمعها كيان سياسي واحد، وهو تحالف قوى الحرية والتغيير والذي من المفترض أنه يمثل الحاضن السياسي لما يسمى حكومة الثورة بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك؟

لماذا هذا الاخفاق والفشل في ملف السلام في مسارات النزاعات المسلحة في دارفور جبال النوبة والنيل الأزرق؟ هل المشكلة في الحكومة الانتقالية؟ أم المشكلة في حركات الكفاح المسلح؟ أم المشكلة في الوساطة؟ أم المشكلة في الأطراف الاقليمية والدولية؟ من المهم الاجابة على الأسئلة أعلاه لتفكيك حالة وأسباب الاخفاق الخطيرة هذه، بيد أنني لن أغوص عميقا في تفاصيل مجريات التفاوض في جوبا أو المواقف السياسية للفاعلين السياسيين إزاء هذه القضية. سأحاول باختصار سبر أغوار مواقف الأطراف الرئيسة والثانوية المؤثرة في عمليات التفاوض.

في سياق تفكيك الأسباب الرئيسة لعدم تحقيق السلام، أبدأ بتحليل مواقف الحكومة الانتقالية وحاضنتها المفترضة- تحالف قوى الحرية والتغيير، من الواضح أن هنالك أزمة ثقة عميقة بين أطراف الأزمة السودانية، صحيح أن قوى الحرية والتغيير كانت تجمع حركات الكفاح المسلحة والقوى المدنية الأخرى التي شاركت في اسقاط نظام البشير، والتي كان من المفترض أنها تحمل رؤية وبرنامجا وتطلعات مشتركة، بل كان ينبغي أن ينهضوا بإرادة جماعية لتحقيق السلام الشامل والعادل، لكن وضح جليا أن بعض القوى السياسية والنخب في المركز ما زالت تسيطر عليها الذهنية والمنهج الإقصائية والانتهازي القديم الذي أفشل دولة ما بعد الاستقلال وحولها إلى دولة ابادة جماعية ضد عدد من الإثنيات والأقوام العريقة في بعض اقاليم السوان الكبري. صحيح أن الانقاذ سقطت كرموز، لكنها لم تسقط كذهنية ومنهج واستراتيجية تنهض على الاقصاء والتفرقة، فهذا هو التفسير الحقيقي لأهم عقبات تحقيق السلام الشامل والعادل، لا أريد أن أغوص في رصد المواقف التكتيكية في هذا المجال، لأنها ماثلة أمام الجميع، لكنى كذلك لا أنحو منحى التعميم في تعرية هذه الظاهرة المدمرة للوطن، فهناك قوى في المركز أثبتت استقامتها الأخلاقية والوطنية غير المتحيزة قولا وفعلا. واضح كذلك، أن هنالك صراعا عميقا بين بعض الدوائر المكونة للسلطة الانتقالية حول ملف السلام، فبعضها يريد تأخير السلام للاستفراد بالحكم، بينما البعض الأخر يسعى للاستقواء بملف السلام لتحقيق أطماع ومكاسب سياسية للاستمرار في السلطة.

أما حركات الكفاح المسلح، فعلى الرغم من صبرها والمحاولات التي تبذلها على صعيد الوحدة والتنسيق، الا أنها ما زالت في حاجة مسيسة إلى الوحدة والرؤية الاستراتيجية والقيادة الملهمة ذات الرؤية والغايات الكبرى، أو قل، القيادة الجماعية القادرة على صنع النقلات والتغييرات الجذرية التي تحقق تطلعات وامال الضحايا في التغيير البنيوى في تركيبة الحكم، لكن، ما زال أمام هذه الحركات فرصة للانفلات من “شرك” ومغريات اتفاق المحاصصات المرتقب للالتحاق بمؤسسات السلطة الانتقالية الهشة- بلا رؤية أو برنامج ، فأمامها فرصة لأعمال الرؤية والتفكير الاستراتيجيين الذين يحققان التغيير الحقيقي، أمامها فرصة لإعادة بناء مؤسساتها وتوسيع مواعين حواضنها بشكل شامل وعميق يراعى المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية، حواضن ومواعين تتجاوز التمييز والتقوقع وفقا للاعتبارات الدينية والاثنية والمناطقية والأيدولوجية والثقافية . من المهم أن تجترح هذه القوى مبادرات صادقة وعملية تعيد تشكيل بنية العملية السلمية لتشمل الضحايا في معسكرات اللجوء والنزوح وأصحاب الحقوق الذين دفعوا أثمان الحروب، والذين يرنون إلى انتصارات رمزية كبرى تحقق تطلعاتهم وتعيد ثقتهم في سودان ما بعد الثورة المجيدة.

من جانب أخر، القوى الاقليمية الدولية، بعد الكورونا، أصبحت مشغولة بنفسها، لكن بعضها متحفز بأنانية صارخة لتحقيق مصالحها الوطنية الضيقة من خلال استغلال واختراق الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية الهشة، فكثير من القوى الاقليمية ليس لديها مصلحة في سودان ديمقراطي سلمى ومستقر، فهي تريد كيان سوداني ضعيف وهش للاستمرار في استغلاله للعب دور وظيفي لصالح صراعاتها وطموحاتها الاقليمية المدمرة، أما وساطة جنوب السودان فمعروف الظروف التي أنتجتها في سياق الحروب الداخلية في البلدين وتأثيراتها على الجانبين، فعلى الرغم من تثميننا لدور دولة جنوب السودان ووساطتها، الا أنها تنقصها المرجعيات والغطاءات الاقليمية والدولية التي تؤهلها للتوسط في نزاعات ذات أبعاد إقليمية ودولية، كما أن عملية وجهود تطبيق وبناء السلام تتطلب موارد ومستلزمات هائلة لضمان النجاح والاستدامة.

هنالك كذلك سؤال الضمانات لتنفيذ أي اتفاقية تتمخض عن مسار جوبا للسلام، بصيغة أخرى. هل الشخصيات التي تتفاوض باسم الحكومة الانتقالية تملك التفويض اللازم من كل المكونات المشكلة للحكومة الانتقالية لإبرام اتفاق سلام؟ هل هنالك ضمانات اقليمية ودولية كافية لتنفيذ أي اتفاق سلام مرتقب؟ من جانب اخر، هل تستطيع الحركات المسلحة المشاركة في منبر جوبا للسلام ضمان تنفيذ أي اتفاق سلام في ظل عدم مشاركة الأطراف الأخرى من القوى المسلحة والمدنية؟ قلت أكثر من مرة، أن الثورة الحالية يجب أن تكون فرصة ذهبية للسودانيين لتصحيح خطايا دولة ما بعد الاستعمار ذات المواطنة الناقصة، وذلك بمعالجة جذور الأزمة السودانية لتحقيق السلام الشامل والعادل واجتراح مشروع وطني جديد تصنعه وتملكه كل شعوب وأقوام السودان. لا جدال، في رأى هذه هي الفرصة الأخيرة، فأما السلام العادل والشامل، أو الانهيار والتمزق، لذلك، نقول لبعض النرجسيين، دارفور لن تنفصل لوحدها، لن تذهب لوحدها، لأنها هي قلب السودان، فان هي ذهبت، ذهب السودان.

السلام العادل الذي نريد، هو سلام شامل وعادل يعم كل أرجاء السودان، لكنه ليس سلام النخب والقيادات أو “الشلليات”، هو سلام الناس والجماهير المقهورة، السلام الذي تتولى صناعته وملكيته الملايين من ضحايا الحروب المستمرة، فبدونهم لن يكون هنالك سودان أو سلام، وبغير تحقيق تطلعاتهم لن تكون هنالك شرعية اخلاقية أو قانونية أو دستورية أو سياسية لأي حكم أو قيادة أو نخبة.

لذلك، لا تهمني كثيرا التفاصيل الفنية للتفاوض أو المؤتمرات الصحفية المتكررة التي لا يتابعها أحد، أن ما تهمني هي مخرجات التفاوض وما إذا كانت تحقق انتصارات رمزية كبرى للضحايا، يجب الاتعاظ من اتفاقيات شراكات اقتسام السلطة الضيقة الناقصة السابقة، والتي مكنت و” رشت” بعض القيادات الانتهازية من طلاب السلطة على حساب الضحايا والجماهير المهمشة. انه قد مضى عهد الانتهازية والاستغلال السياسي المقيت، فلنهتبل هذه الفرصة الاخيرة لخلاص ما تبقى من الوطن، فلنقبل على ذاتنا لتوليد وانتاج الحلول لمشكالنا، فلنتحلى بروح المسؤولية الوطنية، حقا، ان حل مشاكل السودان يكمن في الداخل، هذا إذا توفرت الارادة السياسية الصادقة لأطراف الأزمة، فالتجارب والدروس الماثلة علمتنا أن العالم لا يملك حلولا لقضايانا، خاصة عالم ما بعد الكورونا الذي سينكفئ على ذاته وسيستميت من أجل تحقيق مصالحه الذاتية.

اترك رد