تعود الناس على أن الانقلابات العسكرية تجد من يخرج ويتظاهر تأييداً لها ، ولكننا لم نشهد الذي يحدث الآن ؛ نشهد الآن مجموعات – ولو ضئيلة – تخرج وتتظاهر طلباً لانقلاب عسكري ، تبدأ بالنداء : يا برهان دايرين بيان (بيان الانقلاب العسكري الاول) ، وتختم بالإصرار على البشير أن يعود : الليلة ما بنرجع – الا البشير يرجع ، ثورة ( “ثورة”هي اللازمة التي ابتدعها ثوار ديسمبر/أبريل في هتافاتهم ) ، وبينهما : حكومة الجوع – تسقط بس ، كورونا ما بتكتل (تقتل) ، بتكتل صفوف العيش … سطواً على أهازيج الثورة المجيدة بما يعيد للذاكرة المدائح (النبوية) التي ظهرت في عهد التيه الاسلاموي الراقص المنسوجة على ألحان وإيقاعات أغاني حقيبة الفن الشهيرة .. هي مجموعات تغني للنظام الساقط وتحلم بعودته ، ولكن ، ورغم استحالة الحلم وضحالة الشعارات ، الا أنها من فضائل الديمقراطية ، نعم من فضائل الديمقراطية في شكلها البدائي أن يظهر الغث أيضاً ، ولكن من واجب الديمقراطيين (كثورة ودولة) الارتقاء بمظاهر الديمقراطية وجوهرها جنباً إلى جنب مع البرامج الاقتصادية والتعليمية والحقوقية .. وإلى آخر البرنامج الوطني للدولة الديمقراطية على طريق محاربة الغث والارتقاء بالذائقة مع الوعي ..
وفي درجة أخرى سيطلع صحفيو وكتاب النظام الساقط على الناس :
هذا باللغة المقعرة نافثاً السموم في وجه قيادات قوى الحرية والتغيير والحكومة ..
وذلك شاهراً مخزونه من الشتائم وساقط القول ..
وبعضهم ، وقد أجلس نفسه مجالس الحريصين على الثورة وأهدافها ، موجهاً الملاحظات السالبة بقصد الإثارة والتهييج ضد الأوضاع ..
وآخرين متباكين على ضياع “الشريعة” و “بيضة الاسلام” المنتهكة ، واصفاً رموز ق ح ت والحكومة بالسكارى و “المساطيل”.. وعلاقة كل منهم بالنظام الساقط هي مصالحه وامتيازاته و “عمولاته” ، وفقط هذه الحقيقة هي التي سيكتفي بها عقلاء الوطن والديمقراطية في وصفهم نائين بأنفسهم وأقلامهم عن الإشارة إلى حقائق أخرى في شخصياتهم وسلوكهم .. فإذا كان النموذج الأول البسيط يطالب علناً بانقلاب عسكري “البرهان أو الساقط البشير” فإن النوع الثاني “الكتاب والصحفيين” لا يفعل ذلك علناً وإنما بتركيز الشتائم والتشهير الكاذب على المدنيين في الحكومة والمجلس السيادي ما يعني الترحيب
بالعسكريين بطرف خفي والثقة فيهم ، والنتيجة عند النوعين في نهاية الامر واحدة ؛ حيث يستطيعون العيش والارتزاق .. وسلوك الطرفين في حسابات الثورة تأكيد على نجاحها وعلى عودة الديمقراطية مدخلاً لتحقيق أهدافها ولتطوير الديمقراطية نفسها بتجويد التعليم ونشر التنوير والاستنارة طريقاً لترسيخها وإدامتها وتوطينها نهائياً في بلادنا ..
هذين النموذجين : جماعة المظاهرات المنادية بانقلاب عسكري وجماعة كتاب وصحفيي النظام الساقط : هل يوجد فوقهما أو بينهما نموذج عاقل ؟ لا توجد معطيات تقودنا للظن بذلك ، ولكن لا بأس من إيراد نموذج واحد التقيته ، لعل في جماله وسموه قبس يصيب هؤلاء بعدواه
هو أحد اصدقاء الصبا الباكر ، كان قد وقف مؤيداً انقلاب “الاسلامويين” الكيزان عند وقوعه في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ ؛ هل لقناعة فكرية/سياسية أم لمصلحة ذاتية ؟ الله أعلم .. المهم أننا افترقنا على ذلك ، وبعد كل هذه السنوات ، وعقب انتصار ثورة ديسمبر وسقوط النظام ، جاءني زائراً ومعزياً فاستقبلته ، وبعد عبارات التحية والمجاملة اللازمة ، وأثناء الأنس ، سألته ماذا هم فاعلون ؟ فكان رده : (ماذا سنفعل ؟ انها إرادة الشعب ، والتغيير من سنن الحياة ، وسيسرنا إذا جاء التغيير من مصلحة وطننا واستطاع النظام الجديد أن يفعل ما عجزنا عنه .) ..
هي إشارات متناثرة تحاول التأكيد على حقيقة أنه لا تراجع وأن الثورة ماضية نحو غاياتها ، وأن عنفوانها سيمضي متصاعداً ، قادراً على تجاوز الاخطاء وجوانب القصور سواء في واقع قحت والحكومة أو في شخوصها وأفرادها ..
————————
رحم الله المناضل الوطني والصديق الكبير أبو أمل فاروق أبو عيسى وأحسن اليه وأنزله أحسن المنازل ..