أحمد يوسف التاي
قبل أكثر من نصف قرن من الزمان لخص الشاعر المهندس علي نور شاعر مؤتمر الخريجين المشهد السياسي في السودان وكيفية إدارة الدولة، في أبيات شعر صادقة وهو يجاري الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي كانت بلاده تعاني من نفس العلة التي وضعت السودان تحت وطأتها… كتب علي نور يقول:
كل امرئ يحتل في السودان غير مكانه
المال عند بخيله والسيف عند جبانه
والعلم ليس براجح بالجهل في ميزانه
والمرءُ ليس بأصغريه قلبه ولسانه
بل باكتمال ريائه وروائه ودهانه
هو ذا تماماً الحال منذ فجر الاستقلال وإلى يومنا هذا، فمازال السيف عند جبانه فهو لا يرفعه إلا لقتال ابناء جلدته، بينما مدن عزيزة علينا ترزح تحت نير الاحتلال، ومازال المال عند البخلاء الأسياد والطفيليين الجدد، وأرباب الجشع الذين لم تمتلئ خزائنهم بعد، هي ذات الأحوال التي تركها شاعرنا قبل أكثر من خمسين عاماً وذرف عليها أدمع الحسرة على قرطاسه شعراً صادقاً مُعبراً عن اختلال معايير الكفاءة في تولي قيادة الدولة، فمازالت الأوضاع التي اشتكى منها شاعرنا المبجل محلك سر: (كل امرئ يحتل في السودان غير مكانه)… وختمهابالبيتين:
والمرءُ ليس بأصغريه قلبه ولسانه
بل باكتمال ريائه وروائه ودهانه
الشاعر لخص قضية اختلال معايير الاختيار لقيادة الناس وشُغل المواقع والمناصب، والتشوهات التي لحقت بمعايير القيادة وتقدُم الصفوف، إذ أنها ومنذ ذلك الوقت تبدلت المعايير من الحكمة والحنكة والكياسة وحسن التدبير والسلوك والأخلاق القويمة التي رمز إليها (بأصغريه القلب واللسان)، إلى الرياء والنفاق والمداهنة والتملق، والتي رمز إليها (بل باكتمال ريائه وروائه ودهانه).. فمازال التملق والرياء والنفاق والمداهنة هو السبيل إلى تقدُّم الصفوف والإمساك بخطام الناس أحمعين، وأما أصحاب الكفاءات والخبرات وأهل الصدق والاستقامة فهم مُبعدون ومغيّبون ومنسيون تماماً لأنهم لا يملكون مقومات البقاء والعيش في حلبة صراع أبطالها الثعالب، ولأنهم لا يملكون أسباب النصر في معركة سلاحها الخداع والغش والتزوير والمكر والدهاء.. لذلك يا صديقي القارئ سيظل المال عند بخيله والسيف عند جبانه، وسيظل كل امرئ في السودان يحتل غير مكانه، فطبيب الأسنان الشاطر يؤتى به وزيراً للخارجية، وطبيب النساء والتوليد يؤتى به وفقاً للمحاصصات والترضيات وزيراً للحكم المحلي أو للتخطيط العمراني (ما فرقت المهم هو يرضى)، ويمكن لربة منزل عادية بدون أية خبرات أن يؤتى بها مستشارة في وزارة حساسة جداً، وهكذا يمكن أن نحصي عشرات الأمثلة، وهنا تكمن المشكلة، وهذا هو سر أزمة السودان لأن كل شيء ليس في وضعه الصحيح، فالسيف عند الجبناء، والجبناء لا يصنعون إلا الطغاة، والمال عند البخلاء الذين لا يصنعون إلا الجشع والغلاء والاحتكار، واللصوص يمسكون بمقابض المال، والمنافقون يُقربون من مواقع اتخاذ القرار، والفاشلون هم الذين يترقون ويصعدون سلالم المجد والزهو، والكفاءات (تتفرج بس)، هكذا كان الحال قبل أكثر من نصف قرن ومازال كما هو يا مولاي كما خلقتني.. الـلهم هذا قسمي في ما أملك.
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الـله، وثق أنه يراك في كل حين.
The post يا مولاي كما خلقتني appeared first on الانتباهة أون لاين.