قال الإمام عبد العزيز الكناني (المتوفى سنة 240هـ) وهو داخل على مناظرة بشر المريسي أحد رؤوس المعتزلة في مجلس المأمون ببغداد :
(فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: أدن مني، فدنوت منه، ثم قال: أدن مني زاده تكرارا، وأنا أدنو منه خطوة خطوة، حتى صرت في الموضع الذي يجلس فيه المناظرون، ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما انتهيت إلى الموضع. قال لي المأمون: أجلس فجلست.
قال عبد العزيز: (فسمعت رجلا من جلسائه يقول وقد دخلت من الإيوان: يا أمير المؤمنين يكفيك من كلام هذا قبح وجهه، لا والله ما أريت خلق الله قط أقبح وجها منه)، فسمعته يقول هذا وفهمت كلامه كله ورأيت شخصه على ما بي من الروعة والجزع والخوف، وجعل ينظر إلي وأنا ارتعد وانتفض، فأحب أن يؤنسني وأن يسكن عني ما قد لحقني وأن ينشطني، فجعل يكثر كلام جلسائه ويكلم خليفته عمرو بن مسعدة، ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج أن يتكلم بها يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر إلى الإيوان، ويدير طرفه فيه، (فوقعت عينه على موضع من نقش الجص قد انتفخ، فقال: يا عمرو أما ترى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش، وسيقع فبادره في يومنا هذا، فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا).
قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون فقال لي: الاسم، فقلت: عبد العزيز. فقال لي: ابن من؟ فقلت: ابن يحيى قال: ابن من؟ قلت: ابن ميمون الكناني. قال: وأنت من كنانة. قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، فتركني ولم يكلمني هنيهة، ثم أقبل علي فقال: من أين الرجل، قلت: من الحجاز، قال: من أي الحجاز، قلت: من مكة).
إلى أن قال عبد العزيز الكناني في كتاب (الحيدة) :
(فقال أمير المؤمنين المأمون لبشر: ناظر صاحبك على ما تريد.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشي قد شغل قلبي قبل مناظرتي لبشر. فقال لي: تكلم بما شئت فقد أذنت لك.
فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين من بلغك إنه كان أجمل ولد آدم – صلى الله عليه وسلم -. فأطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: يوسف عليه السلام. فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين- فوالله ما أعطي يوسف على حسن وجهه بعرتين، ولقد سجن وضيق عليه من أجل حسن وجهه بعد أن وقف على براءته بالشاهد الذي أنطقه الله عز ول بتصديقه وبيان قوله وبعد إقرار امرأة العزيز إنها هي راودته عن نفسه فاستعصم فحبس بعد ذلك كله لحسن وجهه، قال الله تعالى : {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} فدل بقوله عز وجل أنه سجن بغير ذنب لعله حسن وجهه وليغيبوه عنها وعن غيرها، فطال في السجن جبسه حتى إذا عبر الرؤيا ووقف الملك على علمه ومعرفته اشتاق إليه، ورغب في صحبته فقال عز وجل: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} فكان هذا القول من الملك عندما وقف عليه من علم يوسف ومعرفته قبل أن يسمع كلامه، فلما دخل عليه وسمع كلامه وحسن عبارته صيره على خافي خزائن الأرض، وفوض إليه الأمور كلها وتبرأ منها وصار كأنه من تحت يده، فكان هذا الذي بلغه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه لا بجماله، قال عز وجل: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ولم يقل أني حسن جميل، قال الله عز وجل: { وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} فوالله يا أمير المؤمنين ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو، وإني أحسن من الفهم والعلم أكثر مما أحسن.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون وأي شي أردت بهذا القول، وما الذي دعاك إلى ذكر هذا؟ فقلت سمعت بعض من هاهنا يقول لأمير المؤمنين: يكفيك من كلامه قبح وجهه، فما يضرني قبح وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاه فقد رأيتك تنظر إلى هذا النفش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت عمرا يعيب ذلك ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص، ولا يدعو عليه، فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع. قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لم خلقني قبيحا فازداد تبسما حتى ظهرت (ثناياه))
انتهى المقصود اقتباسه من تلك المناظرة الشيقة في نصرة مذهب السلف
ـــــــــــــــــــ
الرسالة في هذا المقتبس توجه إلى بعض (الدعاة) الذين أطلقوا لألسنتهم العنان حتى تكلموا في (الأشكال) و (هيئة الخِلْقَة) فعابوا على من يدعونهم وتكلموا في أشكالهم وأوصافهم الخِلْقِيّة وحرصي على أن تكون الرسالة عامة ، يجعلني لا أذكر ولا نموذجاً واحداً .. وقد أسِفتُ لمّا سمعتُ بعض الدعاة يتكلمون بتهكم وسخرية على أشكال مدعوييهم !!
وهو ما لا يجوز لعامة الناس (لا يسخر قوم من قوم) .. فكيف بمن نصّب نفسه داعية إلى الله ؟! وكيف به وهو في لحظات ممارسته للدعوة ؟!
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويفتح علينا بصائرنا .. ويجعلنا ممن يحببون الخلقَ في خالقهم سبحانه وتعالى الذي خلقهم ليعبدوه بمحبة وخوف ورجاء ..
كتبه : أ. د عارف بن عوض الركابي
The post السودان: بروفيسور عارف الركابي يكتب: من الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني إلى هذا الصنف من الدعاة appeared first on الانتباهة أون لاين.