اخبار السودان لحظة بلحظة

موازنة العام المالي 2020 ..شجرة عيد الميــــــــلاد!!

بقلم: د. التجاني الطيب إبراهيم

• للأسف، ظلت الحركة الاقتصادية في البلاد مدفوعة، بالاستهلاك المحلي، وخاصة الاستهلاك المتفلت في القطاع العام، حتى بعد السقوط المدوي لنظام الإنقاذ الاستبدادي الفاشل في أبريل 2019. فبالرغم من نسبة البطالة العالية والمقدرة بحوالي 32% (وزارة المالية: تقرير العرض الاقتصادي للعام 2017)، استمر الاستهلاك الكلي في الاعتماد على تحويلات سوداني المهجر، والإنفاق على مواهي وأجور القطاع العام والحفاظ على الأمن العام، ودعم السلع. أما القطاع الخارجي، فبقيت مساهمته محدودة في النشاط الاقتصادي بسبب ضعف القدرة التنافسية للصادرات نتيجة استعمال سعر صرف صادر غير واقعي وتراجع الإنتاج في القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة. ورغم أن الاستهلاك الكلي سيظل المحرك الرئيس لحركة الاقتصاد، إلا أن هناك عدة مخاطر سلبية تخيم على الآفاق الاقتصادية المتوقعة. فعدم أي تحسن ملموس حتى الآن في خلق فرص العمل، خاصة للشباب (15 مليون منهم عاطلون عن العمل) ومستويات المعيشة، يهدد برفع وتيرة الحراك السياسي والاجتماعي، كما أن النكسات التي تتعرض لها عملية التحول السياسي وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المطلوبة يمكن أن تعيق أي تعافي اقتصادي محتمل. في ظل هذه البيئة المحفوفة بالضبابية، أتت أول موازنة للحكومة الانتقالية مخيبة للآمال لبعدها عن قراءة واستصحاب الحقائق والتحديات الاقتصادية والاجتماعية على أرض الواقع وبصورة صحيحة، كما سنرى في التحليل التالي: –
مؤشرات الاقتصاد الكلي:
• على صعيد النمو الاقتصادي، تتوقع الموازنة أن يحقق إجمالي الناتج المحلي نمواً حقيقياً (نسبة زيادة الناتج المحلي بالأسعار الجارية ناقص معدل التضخم) مقداره 3,1% بنهاية عام 2020، مستمداً قوته من النمو الحقيقي المتوقع في قطاعات الزراعة (1,2%)، والصناعة (1,2%) والخدمات ((,2)، حسب نسب مساهمة تلك القطاعات في إجمالي الناتج المحلي (جملة قيمة السلع والخدمات المنتجة في العام) المقدرة كالآتي: – 21,8%، 18,8%، و59,3% حسب الترتيب. هذه المساهمات مقارنة مع موازنة 2019، تؤشر إلى تراجع كبير في حصص الزراعة (27,8%)، والصناعة (28%) وزيادة هائلة في مساهمة قطاع الخدمات (44,2%)، ما يعني أن القطاع الحقيقي قد شهد تراجعاً مقدراً في 2019. أما معدل النمو الكلي لإجمالي الناتج المحلي بالاسعار الجارية، أي أسعار السوق، فمن المتوقع أن يصل إلى 41% بنهاية عام 2020، بحسب تضريباتنا (جدول1). وإذا طبقنا القاعدة الصحيحة بأن النمو الحقيقي يساوي النمو الكلي بالأسعار الجارية ناقص معدل التصخم (28,7%)، فنجد أن النمو الحقيقي المتوقع في 2020، أكثر من 12% (جدول1) بحسب تضريباتنا، وليس 3,1% كما هو مقدر في الموازنة. هذا يعني إما خطأ في تضريب النمو الكلي، أو في تضريب متوسط معدل التضخم. لكن إذا نظرنا إلى وتيرة نمو الكتلة النقدية (عرض النقود)، فواضح أنها أسرع من وتيرة نمو الاقتصاد الكلي، ما يعني أن تقديرات الموازنة تتوقع ضمنياً معدل تضخم أعلى مما هو عليه كما حدث في العام المالي 2019. ما يثير الدهشة أيضاً أن نسبة عجز الموازنة الكلي إلى إجمالي الناتج المحلي مختلفة في ثلاثة مواقع: 2,6% و 2,2% (مشروع الموازنة، صفحة 35) و 2,9% (صفحة 48)!. لكن المهم هنا، هو أن مؤشرات الاقتصاد الكلي، وعلى رأسها النمو، تمثل القاعدة الأساسية لتقديرات الموازنة، وخطأ تقديرها وعدم تناسقها يقلل كثيراً من مصداقية الموازنة ونوعية الأرقام والأهداف والسياسات التي بُنيت عليها.
أما بخصوص سعر صرف العملة السودانية مقابل العملات الأجنبية قابلة التحويل، فلم تأت موازنة 2020 بجديد، حيث لم تقدم إجراءات وسياسات مفصلة وغير مجربة لكيفية التعامل مع هذا الملف المهم غير التأكيد على: «اعتماد سعر صرف 55 جنيهاً للدولار لحسابات موازنة 2020.»، (مشروع الموازنة، صفحة14)، و»… وتحقيق توازن اقتصادي يعمل على خلق سعر صرف حقيقي يحفز الصادرات ويرشد الاستيراد ويشجع على جذب مدخرات السودانيين العاملين بالخارج…» (مشروع الموازنة، صحفة 19)، دون تحديد سعر الصرف التشجيعي المراد اعتماده والاستراتيجية والآليات المطلوب تنفيذها للوصول إلى «سعر صرف حقيقي» يحقق الأهداف المذكورة. فهذا يحتاج إلى حوالى أربعة أعوام في حالة وضع الاقتصاد السوداني الراهن، ما يستوجب في المدى المتوسط اعتماد سعر صرف يتماشى مع أسعار السوق الموازية لرفع تنافسية الصادر وجذب موارد سودانيي المهجر عبر الجهاز المصرفي دون تعقيدات وإجراءات إدارية عقيمة في إطار حزمة شاملة ومتكاملة من الإجراءات والسياسات المالية والاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي والقطاعي تنفذ بالتزامن.
بالنسبة لمؤشر التضخم (غلاء الأسعار)، تتوقع الموازنة أن يهبط متوسط معدل التضخم الكلي/ المركزي، الذي يشمل أسعار الغذاء والوقود، من 54% في عام 2019، إلى 29% بنهاية العام المالي 2020 (جدول1). لكن من الواضح أن المعدل المتوقع أتى بعيداً عن الحقائق على الأرض والتوقعات المستقبلية لحركة الأسعار، علماً بأن كل اقتصادات العالم لا يزيد فيها متوسط التضخم من 10% (انظر مشروع الموازنة جدول1، صفحة 9). لذلك، من المتوقع أن يظل معدل التضخم المحلي في حالة ارتفاع مستمرة نظراً لاستمرار (1) آثار وتداعيات الحراك الشعبي، (2) البطء في تنشيط القطاعات الحقيقية والصادر، (3) تراجع سعر صرف العملة الوطنية، (4) السحب على المكشوف، كما سنرى لاحقاً، من البنك المركزي (التمويل من غير موارد حقيقية)، و (5) توقع مراجعة الرسوم على الخدمات الحكومية والجمارك والضرائب وأسعار السلع المدعومة لمواجهة موقف الحكومة المالي المتأزم، خاصة بعد اكتشاف وهم الاعتماد على المانحين. للأسف، كل ذلك يؤشر إلى أن عام 2020، قد يكون عام صدمات تضخمية لم يشهدها السودان في الألفية الجديدة، على عكس «خفض كلفة المعيشة»، الذي بشرت به الموازنة (مشروع الموازنة، صفحة 5). أما نمو عرض النقود (الكتلة النقدية) المتوقع (50%)، فهو تحصيل حاصل في واقع الأمر. ففي ظل استمرار السياسات المالية التوسعية في جانب الإنفاق غير التنموي وغياب آلية سعر الفائدة للتحكم في الكتلة النقدية، وعدم الالتزام بقوانين ولوائح البنك المركزي، التي تحكم تمويل البنك للحكومة، فاستعمال آلية عرض النقود لن يكون فعّالاً في تحجيم التضخم الجامح واستعادة الثقة في السياسات النقدية واستقلال البنك المركزي. بالتالي، يبقى التعويل على، «الانضباط المالي والتحكم في الكتلة النقدية لضمان استقرار المستوى العام للأسعار» (مشروع الموازنة، صفحة 5) قليل الفائدة.
على صعيد ميزان المدفوعات، بلغ عجز الميزان التجاري (الفرق بين الصادرات والواردات) 3,7 مليار دولار في عام 2019، بينما حقق الميزان الكلي فائضاً قدره 0,2 مليار دولار (جدول1)، نتيجة لتحسن أداء الحساب الجاري (مشروع الموازنة، صفحة21). للأسف، الموازنة قدمت إحصائيات القطاع الخارجي لعام 2020، كنسب مئوية من إجمالي الناتج المحلي بدلاً من بالدولار كما درجت الموازنات السابقة! بناءً على ذلك، تتوقع الموازنة ارتفاع العجز التجاري من إجمالي الناتج المحلي من 1,3% في عام 2019، إلى 5,3% في عام 2020، (مشروع الموازنة، جدول3، صفحة 13). أما بالنسبة للأداء الكلي لميزان المدفوعات، فتتوقع الموازنة استمرار تحسن العجز من 2,3% في عام 2019، إلى 5% في 2020 مدفوعاً باستمرار التحسن المتوقع في الحساب الجاري من 5,3% في عام 2019، إلى 8,5% من إجمالي الناتج المحلي بنهاية العام المالي 2020. رغم ذلك، تبقى هناك مواطن خطر لا بد من التحسب لها، حيث من المتوقع استمرار ضعف الصادرات بسبب عدم القدرة التنافسية نتيجة لسياسات سعر صرف الصادر غير المحفزة، وعدم اليقين في إعادة علاقات المراسلة مع البنوك الخارجية وتقليص حجم أنشطة التمويل التجاري حتى بعد الرفع الكلي للمقاطعة الاقتصادية الأمريكية، ما يعني تباطؤ التجارة الخارجية وتحويلات سودانيي المهجر والاستثمار الأجنبي المباشر. لذلك، من المتوقع أن يظل أداء الحساب الخارجي ضعيفاً في عام 2020، على عكس توقعات الموازنة.
المالية العامة:
• تتوقع الموازنة زيادة الإيرادات الكلية (الإيرادات المالية والمنح الخارجية) بنسبة 275% في عام 2020، لتصل إلى حوالي 611 مليار جنيه من 165 مليار جنيه في عام 2019، (جدول 2). أما الإيرادات الضريبية، التي تمثل 26% من إجمالي الإيرادات، فمتوقع أن ترتفع بنسبة 57%، منها 19% الضرائب على السلع والخدمات و 4% التجارة والمعاملات الدولية (الجمارك). بالنسبة للضرائب على الأرباح والمكاسب الرأسمالية، فقد تم تقديرها بحوالي 19 مليار جنيه، ما يعادل 12% من الإيرادات الضريبية (مشروع الموازنة صفحة 12)، هذا يعني أن 88% من إيرادات الضرائب المتوقعة سيأتي من ضرائب على المستهلك على أقل تقدير، لأن توقع ارتفاع مساهمة القطاع الخاص في الإيرادات الضريبية من 9 مليارات جنيه في عام 2019، إلى 19 مليار جنيه في عام 2020، غير واقعي في ظل فتور النشاط الاقتصادي الحالي. فيما يتعلق بالإيرادات غير الضريبية، فالقفزة الكبيرة (147%) في تقديراتها تعود إلى توقع ارتفاع غير مسبوق وغير مضمون في المنح الخارجية، رسوم عبور نفط الجنوب، والمساعدات الانتقالية من الجنوب.
الزيادة الهائلة في تقديرات الإيرادات الكلية غير واقعية بسبب الزيادة الكبيرة المتوقعة في المنح الأجنيبة من 14 مليار جنيه في عام 2019، إلى 323 مليار جنيه في عام 2020 ما يساوي 53% من إجمالي الإيرادات المقدرة (!)، ومخاطر هشاشة الأوضاع السياسية والأمنية في جنوب السودان وعدم التحسب لذلك في التقديرات، بالإضافة إلى أن الزيادة المقترحة لزيادة أسعار مبيعات البنزين قد جمدت في البداية، لكن عادت مؤخراً بالشُباك!. رغم ذلك، ستستمر الضغوط على الضرائب والسلع والخدمات، ومبيعات المشتقات النفطية، والرسوم الإدارية لتحمل عبء تحقيق الإيرادات الكلية المستهدفة إذا لم يتم تكيف الإنفاق مع الموارد المالية المتاحة في حالة الفشل المتوقع في الحصول على المنح الخارجية بالحجم المقدر. أما فيما يتعلق بمساهمة القطاعات في إجمالي الإيرادات العامة (الإيرادات الكلية ناقص المنح)، فتتوقع الموازنة (جدول3)، أن يسهم القطاع المتنوع (146 مليار جنيه) وقطاع الدفاع والأمن والشرطة (58 مليار جنيه) بحوالي 71% في الإيرادات المتوقعة (288 مليار جنيه)، علماً بأن 25% من مساهمة القطاع الأخير يتوقع أن تأتي من إيرادات الجمارك (26 مليار جنيه). أما القطاع المتنوع، فمن المتوقع أن تأتي 23% من مساهمته من رسوم عبور نفط الجنوب والترتيبات المالية الانتقالية من الجنوب، 14% من عائدات بيع النفط المحلي و8% من رسم تركيز وفروقات أسعار المحروقات (مشروع الموازنة، صفحتي 108و 115).
على صعيد الإنفاق، أتت موازنة 2020 – كسابقاتها من موازنات النظام السابق – خالية من إجراءات وسياسات ذات أهداف كمية محددة لخفض الإنفاق العام غير التنموي (الجاري) وإعادة ترتيب أولوياته وأهدافه وتوجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية، تتماشى مع القول بأن الموازنة، «ترتكز على تثبيت وتصحيح مسار الاقتصاد الكلي وبرامج بناء السلام والتي تتطلب توفير موارد مقدرة وانتهاج سياسات راشدة…، وذلك من أجل تحسين معاش الناس وتأهيل البنى التحتية الداعمة لكافة الاستثمارات…»، (مشروع الموازنة، صفحة1). للأسف، تقديرات الموازنة الإنفاقية تؤشر إلى عكس ذلك. فإذا نظرنا إلى إجمالي التقديرات القطاعية (جدول3)، فإننا نجد أن ثلاثة بنود فقط ممثلة في تعويضات العاملين (131 مليار جنيه)، دعم السلع الاستراتيجية (265 مليار جنيه)، وتحويلات الولايات (62 مليار جنيه) تبتلع 71% من تلك التقديرات، مقارنة مع حوالي 7% (44 مليار جنيه) للتنمية القومية (مشروع الموازنة، صفحة 97 وجدول2). بالإضافة إلى ذلك، تفترض الموازنة زيادة الإنفاق التشغيلي (غير التنموي) بنسبة 222%، مقارنة مع 144% للصرف التنموي (جدول2). أيضاً، الملاحظ أن تقديرات البنود أعلاه تساوي 75% من إجمالي الإيرادات و73% من الإنفاق الجاري المستهدف. لكن رغم التوسع الهائل في حجم الإنفاق الجاري المتوقع، فقد خلت الموازنة من تقديرات بعض بنود الصرف كزيادة حجم الحكومة المتوقعة في إطار تنفيذ مخرجات حوار السلام الجاري، ومتأخرات الحكومة للقطاع الخاص في مجالي تنفيذ مشروعات التنمية وشراء السلع والخدمات. لذلك، فإن إجمالي الإنفاق الجاري قد يفوق كثيراً تقديرات الموازنة في نهاية العام. تضييق الحيز المالي بهذه الشدة، قد لا يدع مجالاً للمناورة لمواجهة أي التزامات مالية قد تطرأ خلال العام المالي.
أما توزيع إجمالي الصرف على القطاعات (جدول1)، فيؤشر إلى استمرار استحواذ قطاعي الدفاع والأمن والشرطة والقطاع المتنوع على 32% من الإنفاق القطاعي المستهدف، مقارنة مع 5,3% فقط لقطاعات الزراعة – بشقيها النباتي والحيواني – الصناعة، النقل والبنى التحتية، الإداري والاجتماعي، الصحة والتعليم، ما يدل على استمرار عكس فقه أسبقيات الإنفاق العام. وبينما بقيت حصة قطاع الصحة على مستواها في عام 2019 تقريباً رغم الزيادة الكبيرة في حجم اعتماداتها، تراجعت حصص بقية القطاعات المذكورة بنسب كبيرة جداً، أقلها 67% بالنسبة لقطاع النقل والبنى التحتية جدول (3). هذا لا يتسق والقول بأن الموازنة تركز، «… على وقف التدهور وتحقيق الاستقرار باعتباره ضرورة لازمة للمرحلة القادمة المعنية بتحقيق نمو اقتصادي مستدام.»، (وزارة المالية: منهجية وموجهات إعداد موازنة العام المالي 2020، صفحة 5). فتوزيع الموارد العامة بالصورة المذكورة، التي ظل نظام الإنقاذ يكررها كل عام، يكشف أن الطريق ما زال طويلاً لإعادة ترتيب أسبقيات الصرف بتوجيه الإنفاق العام نحو القطاعات المعززة للنمو وتحسين مستوى المعيشة وخلق فرص العمل ومحاربة الفقر. رغم ذلك، فهناك ملحوظة مهمة في تقديرات إنفاق القطاع السيادي وقطاع الدفاع والأمن والشرطة، حيث تراجعت حصة الأول بنسبة 50% والثاني بنسبة 53%، وهذه محمدة للموازنة، ابتلعتها، للأسف، الزيادة غير المسبوقة في حصة القطاع المتنوع.
في جانب الدعم، تتوقع الموازنة ارتفاع إجمالي دعم السلع الاستراتيجية من 62 مليار جنيه في 2019، إلى 265 مليار جنيه في 2020، مع توقع تراجع دعم الكهرباء من 22 إلى 17 مليار جنيه، دعم المحروقات والقمح من 33 إلى 214 مليار جنيه ومن 7 إلى 34 مليار جنيه في نفس الفترة (مشروع الموازنة، جدول3، صفحتي 92-93). الزيادة المذهلة في إجمالي دعم السلع الاستراتيجية تعزى إلى مديونيات الحكومة التي نتجت عن سياسة الدعم لدى بنك السودان المركزي ولم تكن تدرج في حسابات وزارة المالية لإبقاء عجز الموازنة فيما يسمى بالحدودة الآمنة (2 إلى 3 من إجمالي الناتج المحلي). وهذه خطوة جريئة وشفافة تستحق الإشادة. أيضاً، في الاتجاه الصحيح، رفع بند المنافع الاجتماعية بنسبة 160%، من 15 مليار جنيه في 2019 إلى 45 مليار جنيه في 2020. لكن، للأسف، يبقى هذا الرقم ضئيلاً جداً لمقابلة زيادة السقف الشهري للتأمين بنسبة 100% لخمسة ملايين أسرة، وزيادة الدعم النقدي المباشر ليغطي 4,5 مليون فرد بالإضافة إلى الاستمرار في تقديم الدعم الصحي لدعم العمليات بالمستشفيات العامة والرعاية الصحية الأولية بالقرى والأرياف (مشروع الموازنة، صفحة 67 و92)، ما قد يؤدي إلى المزيد من الضغوط على الإنفاق الكلي خلال العام المالي.
فيما يتعلق بالتدابير التي طبقت أخيراً لمعالجة أزمة البنزين، فمن المتوقع أن تؤدي إلى المزيد من التضخم والانكماش الاقتصادي، على الأقل في المدى القصير، لأنها تسير في الاتجاه المعاكس. المشكلة الرئيسة التي تواجه الاقتصاد السوداني حالياً هي زحف غلاء الأسعار المحموم، حيث بلغ متوسط معدل التضخم 64% في يناير 2020، مقارنة مع معدل 29%، الذي بنيت عليه موازنة 2020. كيفية معالجة هذا الوضع هو التحدي الأكبر لا رفع الدعم، لأن الضغوط التضخمية الحالية ترفع التكلفة الكلية في الاقتصاد وتضعف النمو وفرص العمل والطاقة الشرائية للمداخل، مما يزيد من معدلات البطالة والفقر، خاصة بالنسبة للشباب وشرائح المجتمع الضعيفة. لهذا، فأمام الحكومة الخيار بين اتخاذ إجراءات لخفض التضخم أولاً بتقليص الإنفاق غير التنموي وإزالة التشوهات الهيكلية كالرسوم والجبايات على الواردات لجهات كاتحاد أصحاب العمل، بنك الطعام، حرس الحدود (الدعم السريع)… إلخ، أو المزيد من التضخم برفع الأسعار إلى مستويات أعلى وبوتيرة أسرع (للاستزادة، انظر للكاتب: «إصلاح الدعم: خطأ التوقيت وعكس الخيارات»). لكن واضح أن الحكومة الانتقالية – وقبلها الإنقاذ – اختارت الطريق الثاني بإنشاء سوقين لسلعة البنزين، سوق تجارية مدعومة بنسبة 50% وأخرى مدعومة بنسبة 100%. هذا التشوه في السوق سيزيد من حدة التضخم، ناهيك عن الفساد المالي والإداري الذي قد ينتج عنه. لكن يبقى السؤال في كيفية التوصل إلى سعر 112 جنيهاً (28 جنيهاً للتر) لجالون البنزين التجاري. فهناك حوالى أربعة أسعار صرف رسمية، أعلاها التأشيري (52,5 جنيه للدولار). إذا طبقنا هذا السعر، فيكون سعر الجالون المدعوم يساوي 2,2 دولار، أو 4,4 دولار في حالة رفع الدعم كلية، مقارنة مع متوسط 2,6 دولار و 3,3 دولار شامل الضرائب للجالون في أمريكا والاتحاد الأوروبي. بالتالي يكون سعر البنزين في السودان ربما الأعلى عالمياً مع احتمال تكسب الحكومة من السلعة إذا كان فعلاً لدى الحكومة نقد أجنبي بالسعر التأشيري. لكن يبقى أن الإجراء يؤزم من الوضع الاقتصادي والمعيشي في ظل الأوضاع التضخمية الراهنة.
أيضاً، من الملاحظات البارزة في موازنة 2020، توزيع تقديرات التنمية القومية على القطاعات ذات الأهمية الاقتصادية والاجتماعية بين عامي 2019 و 2020، (جدول4). هنا تجدر الإشادة بالزيادات الكبيرة في حصة القطاع الزراعي في جملة تقديرات التنمية القومية من 15% إلى 28,5%، قطاع الطرق والجسور من 8% إلى 10,6%، القطاع الإداري والاجتماعي من 0,6% إلى 1,3%، قطاع التعليم من 3,1% إلى 6,6%، وقطاع الصحة من 1,6% إلى 3,6% (جدول4). لكن من الملاحظ أيضاً التراجع الكبير في حصتي قطاعي الصناعة (45%)، والسدود (56%)، ما يدعو إلى المزيد من التناسق بين الأهداف المعلنة وتوجه السياسات الاقتصادية والمالية المعلنة في الموازنة. من جانب آخر، إذا اعتبرنا تقديرات التحويلات الرأسمالية (التنموية) للولايات، فإننا نجد أن إجمالي تقديرات التنمية القومية والولائية في إجمالي تقديرات الإنفاق، ارتفع من 33,4 مليار جنيه إلى 106 مليارات جنيه في 2020، بينما قفز إجمالي الإنفاق (جاري+ تنمية) من 213 مليار جنيه في عام 2019 إلى 670 مليار جنيه في عام 2020، ما يعني أن نسبة إجمالي الإنفاق التنموي (16%) في إجمالي الإنفاق ظلت ثابتة في العامين المذكورين. هذا يدعو إلى تعزيز الصرف التنموي مستقبلاً بزيادة الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة، والقطاعات الخدمية كالتعليم والصحة، والبنى التحتية لتقوية البعد الإنتاجي والاجتماعي في الصرف العام.
بخصوص العجز الكلي في الموازنة (إجمالي الإيرادات العامة والمنح ناقص إجمالي الإنفاق الجاري والتنموي) فمن المتوقع أن يرتفع من 46 مليار جنيه في 2019، إلى 60 (بنسبة زيادة مقدارها 30%)، وربما إلى 80 مليار جنيه بعد تأجيل الرفع الكلي للدعم عن سلعة البنزين. يتوقع تمويل 60% (35,5 مليار جنيه) من العجز من صافي التمويل الداخلي (شهامة، صكوك الاستثمارات الحكومية، والاستدانة من بنك السودان ناقص خطابات الضمانات، و 40% (24 مليار جنيه) من صافي التمويل الخارجي (مسحوبات القروض ناقص السداد). الاستدانة من البنك المركزي من المتوقع أن تبلغ 42,7 مليار جنيه، مقابل سداد 3 مليارات جنيه فقط بنهاية عام 2020، ما يعني أن 39,7 مليار جنيه سحب على المكشوف (طبع نقود دون مقابل موارد حقيقية). هذا نهج فاشل درج عليه نظام الإنقاذ، يؤكد أن التمدد المستمر في الإنفاق غير التنموي يمثل مصدراً أساسياً لغلاء الأسعار (التضخم) وتدهور الأوضاع الإنتاجية والمعيشية. أما الاعتماد الكبير على التمويل المحلي في بيئة النمو الضعيف، فيؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص في موارد الائتمان المتاح، وتدهور أوضاع المالية العامة، وزيادة بطء التعافي الاقتصادي.
خاتمة:
للأسف، القراءة التحليلية لموازنة 2020، تؤشر إلى خلوها وبعدها عن فكر وروح الثورة، خاصة اعتمادها المفرط وغير المسبوق على توقع تمويل المنظمات الدولية والإقليمية لأكثر من نصف إيراداتها المقدرة. لذلك، فهي هشة في تقديراتها، ضعيفة في أسبقياتها، وشبه خالية من منظومة أهداف كمية وسياسات وإجراءات مفصلة يمكن الاعتماد عليها في تقييم أدائها. فتحقيق خفض مقدر في عجز الموازنة الهيكلي يهدف لكبح جماح الإنفاق غير التنموي سيكون له مردود إيجابي لبناء حيز مالي يسمح باتخاذ قرارات إنفاق داعم للنمو. في هذا الإطار، يمكن التركيز على الإجراءات الموجهة المتعلقة بالإيرادات – الحد من الإعفاءات الضريبية والجمركية وتعزيز التحصيل الضريبي ووقف التجنيب بشقيه الداخلي والخارجي – إلى جانب إعادة ترتيب أولويات الصرف بالانتقال من الدعم المعمم إلى المساعدات الاجتماعية الموجهة والاستثمار الداعم للنمو بعد التأكد من السيطرة التامة على التضخم الجامح. ومن شأن زيادة مرونة سعر الصرف ليتماشى مع أسعار السوق الموازية أن تساعد في دعم تنافسية الصادر وجذب تحويلات المغتربين عبر الجهاز المصرفي. كما أن هناك حاجة ماسة أيضاً لإجراء إصلاحات هيكلية في مجالات الأعمال والتجارة وسوق العمل (قانون العمل مثالاً) لتشجيع توسع القطاع الخاص وخلق فرص عمل جديدة. ما دون ذلك، فستكون موازنة 2020، شجرة عيد ميلاد أخرى، سرعان ما يخبو بريقها وتختفي الهدايا من تحتها وتبقى المشكلة في كيفية التخلص منها.

The post موازنة العام المالي 2020 ..شجرة عيد الميــــــــلاد!! appeared first on الانتباهة أون لاين.

اترك رد