** في هذه الحلقة سوف يكون الحوار الاقتصادي حول ثلاثة موضوعات هي الدعم والغلاء والثاني الدولار الحسابي والثالث الاستثمار، لتأثيرهم الكبير جداً على أهم المؤشرات الاقتصادية التي تؤدي لاستقرار أو اختلال الاقتصاد, وطبعاً بعد التوفيق من عند الله فإن معالجة هذه الموضوعات الثلاثة تحتاج لسياسات اقتصادية بأفق واسع دون تطرف أو شخصنة تلك السياسات أو القرارات التي تصدر بموجبها لإفلاس أو تحقيق مصلحة لآخرين، وان تنطلق فقط كسياسات عامة عادلة لمصلحة الجميع من اقتصادهم القومي الكلي، وهذا هو التحدي الكبير جداً الذي يواجه الحكومة الحالية وإدارتها الاقتصادية بالتحديد.
** وأنا أبدأ الحوار حول هذه الموضوعات الثلاثة، أتذكر جيداً ويدور في ذهني ما قرأته حول نظرية البرتو أو ما تعرف بنظرية محاولات القفز فوق مستنقع الرمال المتحركة الاقتصادية التي تحمل اسم صاحبها البرتو وهو اقتصادي من أمريكا اللاتينية، ومحورها كلما تحاول القفز تغوص لأعماق الرمال المتحركة، وهذا ما يحدث لنا فعلياً حالياً.
كما أتذكر دائماً نصائح أستاذ الأجيال بروفيسور علي أحمد سليمان متعه الله بالصحة والعافية لنا بكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم قبل حوالى نصف قرن من الزمان، بألا نفترض أبداً آنفاً إذا ما حركنا مؤشراً واحداً اقتصادياً سوف تبقى باقي المؤشرات ثابتة دون أن تتحرك.
وبناءً على ذلك سوف أناقش الموضوعات الثلاثة.
** الموضوع الأول لهذا الحوار حول الدعم والغلاء، وحقيقة فلقد أخطأت قيادة الحكومة والإدارة الاقتصادية كثيراً عندما كانت تصدر التصريحات بالإبقاء على كل أنواع الدعم في موازنة عام 2020م، وأن المجتمع الدولي سوف يدعمنا بسخاء، وفعلاً أعلنت المملكة السعودية ودولة الإمارات دعمهم لنا بمبلغ ثلاثة مليارات دولار، من بينها خمسمائة مليون دولار وديعة ببنك السودان والباقي سلع محروقات وقمح وسماد فلهما الشكر.
** رغم ذلك أجيزت لنا موازنة 2020م برفع الدعم عن المحروقات بعد عقد المؤتمر الاقتصادي في مارس القادم إن شاء الله، مصحوباً بأفكار نظرية حول الدعم النقدي مع صعوبة تطبيقه وارتفاع تكلفة إدارته وثغرات فساد عديدة متوقعة من التجارب السابقة الحادثة في أمثلة الدعم النقدي داخل المرافق التي تقدمه.
** المعارضون لاستمرار الدعم حجتهم لماذا تدعم الدولة الأغنياء بأن تبيع لهم المحروقات لعرباتهم الفارهة…الخ، بينما المؤيدون لاستمرار الدعم يقولون إن أية محاولة لرفعه وإيقافه سوف تؤدي لزيادة أسعار كل السلع والخدمات، وبالتالي رفع معدلات التضخم فوق حاجزه الحالي (65%)، خاصة بعد أن كسر سعر الدولار حاجز التسعين ألف جنيه بالقديم، مما أدى لفقدان (50%) من قيمة الجنيه وقوته الشرائية خلال الأربعة أشهر الأخيرة، بسبب عدم مقدرة الإدارة الاقتصادية على استيعاب ما هي مشكلات الاقتصاد السوداني قبل أن تجري وتلهث خلف المساعدات والمنح الخارجية التي دائماً ما تكون لها شروط ومطالب جربناها منذ 1979م خمس عشرة مرة، منذ أن كان سعر الدولار خمسة وثلاثين قرشاً، وتواصلت بعد 1989م وحركت لنا سعر الدولار من اثني عشر جنيهاً إلى حوالى اثنين وتسعين ألف جنيه بالقديم، بمعدل زيادة أكثر من ثمانية آلاف وخمسمائة مرة، أو حوالى ثماني مائة وخمسة آلاف في المائة، وبالرغم من هذا الفشل فإن الإدارة الاقتصادية تفرض علينا أن نكرر تجريب المجرب الفاشل للمرة السادسة عشرة دون أدنى ضمانات بإرضاء الأجانب وبالتالي نجاحها.
** هنالك طرح جريء وشجاع مقدم من بعض الاقتصاديين، وأنا شخصياً شاركت في مناقشته في اللقاء الأسبوعي الراتب قبل أكثر من عقدين من الزمان لجمعية خريجي الاقتصاد بجامعة الخرطوم كل يوم إثنين بدار خريجي الجامعة بشارع الجمهورية. وهذا الطرح الجريء والعادل في نظري يقترح أن يتم تحميل أصحاب كل الناقلات التي تستعمل هذه المحروقات جزءاً من تكلفة إجمالي هذا الدعم والمقدر بحوالى مائة وستين مليار جنيه، وفي تصريحات أخرى بتسعة وخمسين ملياراً.. المهم نأخذ بالتكلفة الأعلى حتى لا ندخل في مغالطات، وبما أن تقديرات عددية هذه الناقلات حوالى أربعة ملايين وحدة حسب القانون، يجب أن يتم ترخيصها سنوياً، وحالياً فإن أغلبها يدفع رسوم ترخيص وضرائب ودعماً لحوالى سبع جهات حوالى ثلاثة ملايين جنيه بالقديم، أو ثلاثة آلاف بالجديد، وبالتالي إذا ما قسمنا عددها على إجمالي تقديرات هذا الدعم، فإن المتوسط الواجب دفعه على كل ناقلة حوالى أربعة آلاف جنيه بالجديد، وحتى تكون هنالك عدالة يمكن عمل جداول عادلة لتحصيل نصيب كل ناقلة من تكلفة هذا الدعم المزعوم حسب نوعية الناقلات الفارهات الجديدة، ثم بالتدرج بعد ذلك بالتخفيض حسب نوعية وحجم وموديل الناقلة بالتخفيض مثلاً عشرة في المائة لكل سنة استهلاك، بحيث يكون الحد الأدنى للمساهمة والدفع في حدود أربعين في المائة حتى إجمالي متوسط المساهمة المقترح دفعها مع رسوم الترخيص سنوياً.
** وأفترض أن يكون هذا الاقتراح عادلاً ويوقف مقولات دعم الأغنياء أصحاب العربات الفارهة وخلافهم في إطار البدائل المتاحة في علم الاقتصاد للحوارات المجتمعية الدائرة حالياً المختلفة.
** الموضوع الثاني لهذا الحوار هو الدولار الحسابي الذي فرضه أحد قيادات السلطة النقدية بعد الانفصال، بأن قام باستلاف ودائع المودعين بالعملات الأجنبية وحولها للبنك المركزي من البنوك التجارية المودعة بها، وصعب ذلك القرار استرداد المودعين لها عند حاجتهم لأموالهم، وأصبحت تصرف كما يقولون بالقطارة نقداً، والذي يطالب بها كاملة تقول له قيادة البنك التجاري الموددعة به سوف نعطيك شيكاً بها وأذهب به لبنك السودان الذي أخذها وحولها كدولارات حسابية!! وأظن أن النتائج السلبية للدولار الحسابي قد هزت كثيراً مصداقية النظام المصرفي بالبلاد، وحجمها مقدر بحوالى ثلاثة مليارات دولار، وأرى أن تبادر الحكومة الحالية والبنك المركزي بإعادتها لأصحابها داخل حساباتهم بالبنوك التجارية، حتى يتمكنوا من صرف ما يريدونه منها، وأن تعطى الأولوية في دفعها قبل ما يتردد حول ضرورة دفع أقساط بعض قروض الصناديق الدولية والإقليمية حتى تعطينا قروضاً جديدة, وطبعاً رد الدولار الحسابي بدوره سوف يجلب تحويلات المغتربين وكل السودانيين لبنوكهم دون أرباح وفوائد ومذلة، وربما بعض أفراد الإدارة الاقتصادية يريدون تلميع سيرتهم بإعطاء الأولوية لدفع مستحقات الصناديق الخارجية وإهمال الدولار الحسابي لمواطنيهم.
** الموضوع الثالث هو الاستثمار، حيث لدينا حالياً أسوأ قانون للاستثمار هو قانون الاستثمار القومي لسنة 2013م، الذي صدر بمرسوم جمهوري مؤقت دون مناقشته تشريعياً، حيث جاء بدون منح المستثمر إعفاءً من ضريبة أرباح الأعمال عند بداية العمل، وبدون منحه امتياز شراء الأرض الاستثمارية بالأسعار المقدرة أو التشجيعية، حيث صدرت كافة التراخيص خالية ــ التي صدرت بموجبه ــ من هذين الامتيازين النمطيين للمستثمر منذ عام 1956م.
** سبق أن نشرت عدة حلقات نهاية العام الماضي بصحيفة (إيلاف) حول أن بالسودان (89) قانوناً لتنظيم الاستثمار، أعدتها هيئة المستشارين بوزارة رئاسة مجلس الوزراء، أوضحت التشوهات العديدة في الاستثمار اتحادياً وولائياً وإجراءاته الخمسة والأربعين الفعلية الموجودة حالياً رغم زخم النوافذ الموحدة.
ولي عودة للاستثمار إن شاء الله.
The post الدعم والغلاء والدولار الحسابي والاستثمار appeared first on الانتباهة او لاين.