اخبار السودان لحظة بلحظة

السلام لن يتحقق والموازنة لن تنجح

لعل هذا العنوان الصادم للمقال يثير كثيراً من القلق والإحباط والإشفاق على الثورة الشبابية العظيمة المتفردة، ولكن مواجهة الواقع والاعتراف بالأخطاء هو المدخل الآمن الصحيح لإعادة الثورة إلى مسارها في تحقيق شعاراتها (حرية سلام وعدالة).
الحرية تحققت بالتحول الديمقراطي المدني وتكوين مجلس الوزراء برئاسة د. حمدوك بكل مؤهلاته الرفيعة وخبرته الطويلة في المؤسسات الدولية والتي بها عمل في دول أفريقية تشابه ظروف وتعقيدات السودان الاقتصادية والإثنية والجهوية، وبوجوده كرئيس للجهاز التنفيذي كسب السودان احترام وتقدير دول عديدة مؤثرة في العالم مثل أمريكا ودول الاتحاد الأوربي، إضافة إلى السعودية والإمارات.

 

تحققت الحرية شكلاً ومضموناً – شكلاً في إزالة قانون النظام العام المكبل للحريات الاجتماعية والشخصية – تحققت الحرية في وسائل الإعلام خاصة المقروءة حتى المعارضين من أنصار النظام المباد يكتبون الأعمدة المناوئة للثورة وأهدافها، والموالية للنظام المباد الذين في ظل الحرية يقابلهم كتاب أعمدة أشاوس يتصدون لهم بمنطق وعقلانية، وقوة تعيد للثورة جذوتها وتبطل مفعول مقالات المعارضة وترفع روح الثوار المعنوية. وسائل التواصل الاجتماعي الحر أتاحت فرصاً ذهبية لتعميق مفاهيم وشعارات الثورة، متمثلة في مساجلات وردود مفحمة لكل من يدافع عن النظام المباد. مواكب 19 ديسمبر المليونية التي غمرت كل شوارع مدن السودان الرئيسية، أكدت أن الثورة محروسة من كل مغامرات تهدف إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ومن أبرز ملامح تنفيذ شعار الحرية الاستجابة الأمريكية السريعة عند زيارة حمدوك لها قبل أسبوعين، وتحويل السودان إلى قائمة الرقابة الخاصة (swl) (Special watch list)، نتيجة للخطوات المهمة التي اتخذتها الحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون لمعالجة الانتهاكات الممنهجة والمستمرة التي ارتكبها النظام المباد بشأن الحريات الدينية.
السلام لن يتحقق بالطريقة والأسلوب والسياسة العرجاء التي بدأت بها مفاوضات جوبا تحت وساطة الرئيس سلفاكير، لن يتحقق السلام للأسباب الآتية:
أولاً: الوساطة والرعاية للمفاوضات تأتي من دولة ورئاسة تعاني من فقدان السلام أكثر من السودان، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ثانياً: تبنت الوساطة نفس أساليب وتكتيكات النظام المباد، والتي لم تنجح في أي مرحلة حتى الآن، إذ استمر التفاوض في منابر الدوحة وأديس أبابا، قرابة العشر سنوات ولم يفضِ إلى سلام دائم، وهي السياسات التي تقوم على تعدد المنابر وحجب بعض التفاصيل في كل منبر عن الآخر، مما يؤدي مباشرة إلى فقدان الثقة بين مجموعات المعارضة في ما بينها والحكومة.

ثالثاً: في المفاوضات الخارجية حالياً تم ابتداع أسلوب المسارات، إذ تم تحديد خمسة مسارات وفقاً لإعلان جوبا الموقع في 11 سبتمبر، وهي مسار دارفور ومسار المنطقتين ومسار الشرق ومسار شمال السودان ومسار خامس غامض غير واضح الهدف، هو مسار الوسط الذي وقع عليه الفريق (حميدتي) مع التوم هجو الثلا ثاء الماضي.
رابعاً: الجلوس في مسارات وغرف مغلقة وأجندة سرية ومناقشة أجندة قومية يتعارض تماماً مع الوثيقة الدستورية التي نصت على حسم المسائل القومية في عملية السلام بعد تكوين المجلس التشريعي، إذ قد يفضي الاتفاق إلى تعديلات دستورية، وحسب علمنا فإن التفاوض في المسارات المتعددة يتطرق ويشمل مسائل قومية وحتى المسائل الإقليمية لا يمكن فصلها من البعد القومي، إذ قد تتطلب الحلول الإقليمية تعديلات وتوجهات قومية.

خامساً: لكل ذلك وحسب مجريات التفاوض وبروز الخلافات والتركيز على توزيع السلطة، فإن الوصول إلى سلام شامل مستدام يصبح عصياً إن لم يكن مستحيلاً، عليه لا بديل للوصول إلى سلام إلا عبر ما اقترحته في مقال سابق الأسبوع الماضي، بالتغيير الجذري في خطوات اتفاق السلام بتحويل التفاوض إلى حوار وطني شامل في مائدة مستديرة تضم كل الفصائل داخل السودان، يستمر الحوار مفتوحاً علنياً شفافاً حتى الوصول إلى سلام شامل مستدام أو الفشل في ذلك، وبهذا سوف يعلم المواطنون من الذي تسبب في الفشل أو النجاح مثل ما حدث في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، عندما علم الجميع أن الجنوبيين في غالبيتهم يطالبون بحكم فدرالي في ظل سودان واحد، وأن شخصاً واحداً هو أقري جادين طالب بالانفصال، وكان صوتاً نشاذاً غادر البلاد فوراً واستمرت الأحزاب الجنوبية الأخرى في المشاركة في الحكم في سودان واحد حتى حدث الانفصال المؤسف بفعل فاعل في يوليو 2011.
العدالة تتحقق بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وسيادة حكم القانون – التساوي في الحقوق يقود إلى الأزمة الاقتصادية والموازنة الموضوعية العملية.

حتى الآن لم يتم الاتفاق على ميزانية 2020، والمواطن يجأر بالشكوى من الارتفاع الجنوني في الأسعار وصعوبة أو استحالة توافق الدخول مع المصروفات.. تأخر الميزانية بسبب رفع الدعم الذي يستنزف القدر الأكبر من موارد الميزانية.. دعم السلع أكبر وأخطر مهدد لاقتصاد الدول، لأن الدعم الشامل يستفيد منه المواطن القادر الثري أكثر من الفقير، الدعم يشجع على تهريب السلع إلى دول الجوار، الدعم يستفيد منه ملايين الأجانب داخل السودان من جنسيات عديدة، مثلاً الوقود المدعوم بسعره الحالي (لتر الجازولين أرخص من لتر ماء الصحة)، واستفادة القادر تقود إلى الاختناقات المرورية الحالية، إذ نرى السيارات الخاصة بأعداد كبيرة في كل شوارع العاصمة وحتى ساعات متأخرة من الليل، رفع سعر الوقود إلى مستواه الحقيقي دون دعم يساهم بقدر كبير في ترشيد استهلاكه بقصر حركة السيارات إلا للمسائل الضرورية، ويشجع الأسر والأصدقاء في استعمال أقل لسياراتهم وخروجهم جماعياً في كل سيارة، لذلك الإجراء العملي الوحيد لإنقاذ البلاد من انهيار اقتصادي هو رفع الدعم الفوري من كل السلع والتعويض العاجل المجزي النقدي لكل مواطن تحت خط الفقر حسب المستوى السائد لغلاء المعيشة، يجب أن يحدد الدعم المباشر النقدي هذا قبل رفع الدعم السلعي، كل ذلك يمكن أن يتم قبل نهاية الربع الأول من العام 2020.

لكل ما تقدم، فإن ما يحدث الآن من ارتباك وعدم وضوح رؤية وبداية تصدع في تماسك عناصر قوى الحرية والتغيير واتهامات متبادلة حول غموض عملية فض الاعتصام واتهامات أخرى بموالاة البعض من العناصر إلى مؤثرات خارجية في المحيط العربي، إضافة إلى التلكؤ في العقاب والقصاص لكل من شارك في قتل المواطنين السودانيين طوال فترة الإنقاذ منذ عهد بيوت الأشباح مروراً بشهداء سبتمبر 2013، ومجازر دارفور التي راح ضحيتها مئات الآلاف، وجنوب كردفان والنيل الأزرق حتى مجزرة فض الاعتصام، كل ذلك سوف يدفع بالثوار إلى التدخل وتسيير المواكب المليونية حتى يتم التغيير المدعوم داخلياً والانحياز إلى مطالب الثوار، ويتم التحول المدني الكامل القوي المتماسك تحت حماية مأمونة لا تريد أن تحكم، ويكون حكماً مدنياً كاملاً محروساً بالجيش مثل ما يحدث في تركيا.

تقرير:عمر البكري أبو حراز

الخرطوم (صحيفة آخر لحظة)

اترك رد