اخبار السودان لحظة بلحظة

إيمان كمال الدين: لا عزاء

تغيبوا ولا عزاء في، “أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي”، لقد انفرط الحبُ من القلب منذُ وقتٍ طويل كعقدٍ من اللؤلؤ تناثرت حباته وتدحرجت لتسقط في قاع البحر حيثُ الصدف، فمن منا يملك ذات القدرة للغوص إلى الإعماق مجددًا، لقد اختبرت ذلك العمق منك، ولا عزاء.
لكن ما الذي حملني على توديعك مجددًا…؟ لو أني أدرك أن رائحتك ستبقى عالقةً في مسامي لما ودعتك، أدرك الآن أنهُ علينا أن نكون أكثر حذرًا ونحن نلقي بكلمات الوداع حيثُ لا أمل من اللقاء، وحدها النار تقضي على ما نرغب في التخلص منهُ، وحدها تحيل الروائح والأشخاص والأمكنة إلى رماد.
تغيبوا ولا عزاء في، “أن تأتي متأخرًا خيرٌ من أن لا تأتي”، لقد انتظرت كثيرًا إلا أنك لم تأتِ، كنت مثلهم كحال المتأخرين يرسلون رسائل تفقدية كالغرباء بعد أن كانوا أقرباء، كان الأغراب أقرب ولم يتأخروا، كان من المضنى أن أدلف إلى تلك البوابة ولا أجدك حاضرًا، ولا أن تكون من الطارقين على ذلك الباب الذي لم يشرع أبوابه إلا لك.
ما جدوى الحب إن لم تكن أول الحاضرين، وآخر الراحلين..؟ إن كانت هناك حاجةٌ للرحيل، ما القربان الذي يمكن أن يقدم للقلب…؟ وما عزاء الروح؟
ما أمر الإنتظار وما أقسى حضورك، حضورهم المتأخر، أنا لا أجيد الحديث لذا أكتب، أكتب لأني أمتلك القدرة على أن أمسح الكلمة قبل أن تهوي على قلبٍ ما، لذا لا أتحدث كثيرًا فأين تذهب الكلمة حين تخرج..؟ لا تحملها الريح بعيدًا هي فقط تسقط على القلب، أدرك الآن قساوة الكلمات حين ننطق بها أنها تحرق ولطالما كنتُ أتساءل ٍعن داء “الحرقان” الذي يصيب والداتي بين الحين والآخر حين تقول أنها تشعر بلهيب يحرقها، أنا الآن تحرق قلبي كلمات ستحيلهُ إلى رماد.
تغيبوا ولا عزاء في، “أن تأتي متأخرًا خيرٌ من أن لا تأتي”، ما جدوى الحب إن لم تكن أول الحاضرين، وآخر الراحلين..؟ إن كانت هناك حاجةٌ للرحيل، ما القربان الذي يمكن أن يقدم للقلب…؟ وما عزاء الروح…؟ الرسائل التي كتبت إليك…؟ العيون التي تعلقت بك حين تدلف من بوابة الانتظار…؟ والأقدام التي قطعت الطريق إليك ذهابًا وإيابًا ثم توقفت في غابةٍ مقفرة وطال الانتظار
ودعتك وداعًا يليق بحبي لك فأنظر إلى ما خلفت وراءك أو لا تنظر فإنهُ الأخير، لكن لا أحد يقول ذلك وما من أحدٍ يملك من القوة بما فيه الكفاية ليقول: الوداع، ونحن لسنا بحاجةٍ للكلمات لندرك أنهُ لا لقاء. وسط تلك الفوضى، الرماد، انفراط العقد والقاع، يضع أحدهم ملحًا على جراحك المثخنة فأهم بالقول: لو أنك تأخرت قليلًا..!

قد لا تبدو الحياة كما ننظر لها من ثقبٍ أسود صغير، فالمدينةُ التي أحيا بها غارقةٌ في مظاهر الحياة، الباعةُ المتجولون يتوزعون على الرصيف كلٌ ينادي على بضاعته حتى تختلط عليك الأصوات لكن صوتًا واحدًا لا يختلط مع أصوات الآخرين وهو صوت صاحب محل الساعات، في مدينةٍ لا تكترث للعقارب، ولا عزاء في عدالةٍ متأخرة.

أما الشحاذون فهم الوجه الآخر للمدينة تتزايد أعدادهم يومًا تلو يوم، كلٌ بإصابةٍ مختلفة ولكن ماذا عن إصابة القلوب هل يحق لنا أن نتسول بها..؟، أطفالٌ صغار وشبابٌ في مقتبل العمر ينادون على مناديل” منديل بجنيه” أشترى ثلاث حين أتوقف عند أحدهم إنها تحمل عطرًا أكثر من تلك التي أشتريها من السوبر ماركت وبسعرٍ أعلى، إنها بلا عطر، فهل تبدو هذه كمدينةٍ يمكن أن تبالي بمن يأتي متأخرًا أو من لا يأتي..؟

لقد انتظرت كثيرًا إلا أنك لم تأتِ، كان من المضنى أن أدلف إلى تلك البوابة ولا أجدك حاضرًا، ولا أن تكون من الطارقين على ذلك الباب الذي لم يشرع أبوابه إلا لك.
لو كنتُ كمدينتي لا تبالي بالغرباء، الوافدين، والمقيمين، لا يضنيها سير الأقدام عليها فهي أرضٌ على أيّ حال، ولا يثقلها حمل كل تناقضات البشرية فقد كتب عليها أن تكون وطنًا ولا بديل للأوطان، لا يضينها الحب فهي لا تدركهُ، لا تذرف دمعًا فليست لها أعينٍ، لا تشم روائح الأحبة فهي بلا حاسةً للشم، لا تنتظر أحدًا ليأتي، ولا تقف لتودع أحدًا فهي بلا أقدام، لا تبالي بالعدالة أتت أم لم تأتِ فلا قلب يستشعرُ معنى الضيم، فهي ليست سوى مدينة تعمها الفوضى، تضم رفات الموتى والأحياء، ولا عزاء.

حسنًا لقد مضى الوقت وكل من كان على لائحة الانتظار قدم متأخرًا، ألقيتُ نظرةً على بعض الرسائل التي وردتني ولم أجب عليها تركتها معلقة وستبقى كذلك، إلا رسالتك ولو أني تركتها معلقة لكنتُ قد تحررتُ منك إلى الأبد، ولكن لا عزاء.

تغيبوا ولا عزاء في، “أن تأتي متأخرًا خيرٌ من أن لا تأتي”، من الأفضل أن لا تأتي، لقد انفرط عقد اللؤلؤ، وتفرقت حبيباتهُ كلٌ في إتجاه ولم يخلف الركض يمنة ويسرة لتجمع هذه أو هذه سوى الضياع، لقد عاد اللؤلؤ إلى أصدافه، وبقي الصدف في القاع، وقد قال أحمد بهجت من قبل أن محار البحار الذي يصنع اللؤلؤ يصنعهُ حين يقتحم جسم غريب عالم اللؤلؤ الداخلي، كأن الجراح تلد اللآلئ. سيمضي الكثيرٌ من الوقت قبل أن ندرك أن المدينة التي عمتها الفوضى كانت إنسانًا طال انتظاره، ولكن حينها لا عزاء.

اترك رد