الذهب والمعادن كيف نحولهما لمصلحة السودان؟
الذهب أين ذهب؟
كتبت قبل سبعة سنوات مقال بعنوان “الذهب الذهب أين ذهبّ” وقلت في تلك المقالة:
الأصل أن تكون الموارد الطبيعية في السودان من أرض وما بداخلها وغابات ومصادر مياه وأجواء ملكا للشعب السوداني ويوجب دستور 2005 الانتقالي على الدولة أن “تطور الدولة، بموجب التشريع، الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية وأنجع الأساليب لإدارتها.” (الفقرة 3 من المادة 11). والناظر لقضية اكتشاف واستخراج الذهب في السودان يرى فوضى واهدارا لمورد هام غير متكرر من ثروة الشعب، ولعل بداية البحث الشعبي الحر للذهب في محاولة من السودانيين لمواجهة ظروف الحياة الصعبة والتعويض عن عدم وجود فرص للعمل، كان قد برر ترك الحبل على الغارب، وهو في الحقيقة كان استخداما من الدولة للمواطنين كأدوات للبحث والكشف عن أماكن الذهب، حتى إذا ما وجدوه استبدلتهم الدولة بالشركات المحلية والأجنبية. ومن ثم كثر الحديث مؤخرا عن توقيع الحكومة عقود مع شركات محلية وأجنبية تعطيها امتيازات اكتشاف واستخراج الذهب، ولا يعرف الناس على أي أساس يتم منح هذه الامتيازات وما هي الشروط وما نصيب السودان من الذهب المستخرج، وإذا قارنا ذلك مع امتيازات البترول ورغم سرية العقودات أيضا إلا أن المفهوم أن هذه العقود تقوم على أساس شراكة تمثل الحكومة فيها ذراع مؤسسي، (“شركة النفط لسودانية”، وهي عبارة عن دائرة من دوائر وزارة الطاقة والتعدين التي تدير قطاع النفط وبحسب وزير الطاقة والتعدين، الدكتور عوض احمد الجاز، تنجز الشركة حالياً عقوداً استثمارية مع شركات نفطية أجنبية وتفاوض عدداً آخر. والى جانب تنظيم قطاع النفط ومفاوضة الشركات النفطية الاجنبية باسم الحكومة، تتابع “شركة النفط السودانية” المصالح التجارية للحكومة في قطاع النفط فهي تعمل في الواقع كشركة قابضة مؤلفة من الشركات الحكومية ذات الادارة الذاتية العاملة في مجالات استخراج النفط ونقله وتوزيعه وتسويقه.) و شركة سودابت التي تشارك في اسهم الكونسرتيوم والشركات التي تعمل في الاكتشافات والاستثمارات، ويتم استكشاف البترول وانتاجه على أساس الشراكة في الانتاج بعد خصم ما يسمى ببترول التكلفة والتي تسترد عن طريقه الشركات تكلفة استثمارها (يتم تحديد نسبة ثابتة من الإنتاج وهى 60% توزع بنسبة 28% للشركات الأجنبية و72% للحكومة ويتم تخصيص ال40% المتبقية من الإنتاج لتعويض الشركات الأجنبية عن تكاليف العمليات واسترداد الاستثمارات السنوية وإذا كان هنالك فائض من الـ 40% يضاف إلى نصيب الحكومة). ولا شيء من ذلك فيما يبدو يحدث للذهب، عدا ما حدث أيام نميري للشراكة بين السودان والسعودية والشركة الفرنسية في مناطق جبيت وأرياب بالبحر الأحمر والتي تعاني من مشاكلها الخاصة حيث يتم تصدير الذهب بواسطة الشركة الفرنسية وحيث لا يعرف أين يذهب نصيب السودان. لذا أدعو لقيام شركة مملوكة للدولة تمثل الدولة في الشراكات مع الشركات المحلية والأجنبية ويشكل عائدها موردا من موارد إيرادات الميزانية العامة.
إن وجود الشريك الحكومي السوداني لا يحقق ميزة العائد المالي فقط بل يشكل ميزات أخرى كالتدريب في إدارة المناجم وعمليات الاستكشاف والبحث والاستخراج، ويساعد على الرقابة على المنتجات وعدم تهريب الذهب أو التهرب من دفع الضرائب أو العوائد الجليلة.
إن الذهب ثروة طبيعية قومية غير متكررة، وبالتالي يجب أن يعود عائدها لكل أهل السودان عن طريق الدولة وإيرادات الموازنة العامة، وبالتالي الصرف على التنمية والخدمات.”
ومنذ ذلك الوقت جرت مياه كثيرة تحت الجسر وأنشأت وزارة المعادن شركتين أحدهما لتقديم الخدمات الانتاجية للمعدنيين والاخرى لتكون ذراعها في الاستثمار ولكن المسألة ما زالت تعاني من فوضى:
1- يوجد قطاع اهلي من المعدنيين الصغار والذين يقومون بالتعدين ويحملون ما يحصلون عليه من للطواحين التي تطحن وتستخرج لهم الظاهر من الذهب ثم تبيع الكرتة (بقية التراب الذي يحوي ذهبا ويحتاج لمعالجة أكثر تعقيدا) لمصانع الكرتة
2- شركات تعدين خاصة اهلية أو رأسماليين يملكون مناجم
3- شركات أجنبية خاصة حاصلة على ترخيص من وزارة المعادن ولا يعرف ما هي شروط الترخيص
4- مصانع الكرتة التي تملكها شركات وطنية أو أجنبية
والمهمة الأساسية للفترة الانتقالية هي اعادة تنظيم هذا القطاع بحيث يكون ما ينتج منه من ذهب يتم في النهاية مروره وبيعه عبر قنوات رسمية تسد منافذ التهريب وهذا يتطلب ترتيبات تنظيمية تجعل هناك دوائر او حلقات تربط بين مراحل التعدين من المنجم حتى التسويق بحيث ينال كل ذي حق حقه وفقا لأسعار السوق عند نهاية كل حلقة أو دورة.
إن انتاج الذهب تختلف تقديراته وهذا جزء من الفوضى السائدة ولكن مهما يكن حجمه فهو يجب ألا يلحق عائدات البترول وأن يستفاد منه في الاستثمار الإنتاجي وفي توسيع الخدمات، وألا يذهب لتمويل واردات الأغنياء من العربات والأثاثات والسلع التفاخرية وغير الضرورية الأخرى او تلك التي تنافس صناعتنا المحلية أو تمنع توسعها.
إن الأثر الأول لإصلاح انتاج الدهب وتسويقه سيكون على الميزان التجاري وميزان المدفوعات ولكننا كنا قد طالبنا أن يمتد هذا الأثر على الاستثمار وعلى قيمة العملة، أما الأثر على الاستثمار فسيأتي إذا ما وجه العائد من النقد الأجنبي لتمويل وسائل انتاج ومدخلات انتاج جديدة، أما تحسين قيمة العملة السودانية، فإن مجرد توفير النقد الأجنبي لتمويل الواردات لكفيل لتحسين وضعها ولكن من الضروري دعم ذلك ببناء احتياطي من النقد الأجنبي حتى لو اضطرنا ذلك لنهج سياسة تقشفية لبعض الوقت.
يجب ان يكون لإنتاج الذهب أثرا على تنمية المناطق التي يكتشف فيها وهذا يتم بفرض ضريبة محلية مقابل الانتاج وأن يخصص العائد من تلك الضريبة لإزالة فوارق التنمية وتنمية المناطق المحلية.
نحو سياسة انتقالية متريثة تجاه المعادن الأخرى
تقوم السياسات الحالية على اعطاء تراخيص لاستكشاف وتصدير عدد من المعادن الأخرى كالحديد مثلا والذي يصدر بشكل خام وهكذا معظم المعادن الأخرى وأرى أن تريث في اعطاء تصديق حتى خروج اقتصادنا من أزمته وأن تعتمد على انتاجنا الزراعي والصناعي وانتاج البترول والغاز والذهب المحتمل وأن نؤجل مسألة استخراج المعادن الأخرى وتصديرها كمواد خام فذلك اهدار لموارد الأجيال القادمة ومن الممكن الانتظار حتى يمكن الاستفادة من هذه الموارد في التصنيع فمثلا سيؤدي استغلال الغاز في البحر الأحمر مع وجود المعادن الضرورية لإنتاج الفولاذ لإمكانية صناعة ستمتع بامتياز وجودها في سوق الكوميسا، رغم وجود الانتاج المصري وسيغطي حاجة الصناعات الهندسية في البلاد. كذلك التريث في تصدير خام النحاس والمايكا ورمال بارا قد يكون مدخل لصناعات مهمة في المستقبل. يجب الا يدفعنا سعينا للخروج من الأزمة لبيع موارد البلاد بأرخص ثمن أو السماح للاستثمار بأي شروط.