الشاعر الغنائي العذب عثمان خالد ، وهو في منفاه الاختياري في بغداد ، وقد انفعل بتنصيب جعفر نميري “لولاية ثانية” ، كتب قصيدةً بالعربية الفصيحة (وأظنها الوحيدة) ، أذكر مطلعها الذي إذا قرأته تحسب انها كتبت اليوم ، يوم الاثنين ٣ يونيو ٢٠١٩ :
“اليوم تنتحب المساحة في البلاد ،
وتطاطيء الأشجار هامتها ،
وتنكفئ الشواهد في القبور ،
ويعلن النيل الحداد”
رحمك الله يا عثمان ، فقد كتبتها “اليوم” “قبل أربعين عاماً” عندما غزا البلاد غزاة جدد ، كان الناس يقولون (المغول – التتار – الانكشاريون أو السلاجقة الأتراك ..الخ) ولكن كتاب المستقبل سيصفون “بلاوي” زمانهم القادم ب : الجنجويد الجدد ، نعم ، (الجنجويد) ، صناعة الاسلامويين وأتباعهم ، فهم علامة القيامة “قيامتهم” ..
ولكن “نحيب اليوم وحداده” مكتومان يا عثمان ، يخفيان وجهاً آخر طي الإهاب ، وجه الجيل الجديد الذي ينظر إلي الماضي بغضب ورفض للتجارب السابقة ، التجارب التي أقعدت بالبلاد طوال العهد الوطني بل إنحدرت بها للمستنقع الراهن ، تجارب الانقلابات العسكرية فالثورة ضدها ثم إختطاف الثورة ودماء شهدائها ليبقي الوطن في محبسه مقعداً (بضم الميم) حسيراً ، تجد آيات ذلك في هذا التدافع العجيب صوب الشهادة والفداء ، قرابة المائة شهيد في الموجة الأولي (ديسمبر ٢٠١٨ – ١١ أبريل ٢٠١٩) ، وأكثر من مائة شهيد حرقاً وضرباً بالرصاص أو قذفاً في النيل مقيدين بالأثقال مع مئات الجرحى في الموجة الثانية فقط في صبيحة فض الاعتصام حول القيادة العامة للجيش ، يوم الإثنين ٢٩ رمضان/ ٣ مايو ٢٠١٩ ..
ومهما اجتهد الكتاب والمحللون والشهود في الحديث عن عملية فض الاعتصام ومسؤولية
المجزرة التي رافقتها فإن المجلس العسكري الانقلابي الكذوب هو المسؤول أولاً وأخيراً ولا أدل علي ذلك من الإعتذار والتبرير ؛ الإعتذار الباهت الذي تقدم به رئيسه البرهان ثم تبريرهم بالقول أن المقصود كان منطقة (كولومبيا) وأنهم طاردوا عناصرها إلي داخل ميدان الإعتصام ، إذن ، جنجويد المجلس ومليشياته لاحقوا عناصر (كولومبيا) الي داخل ميدان الإعتصام ، هذه اعترافات المجرمين ، والاعتراف سيد الأدلة كما يقولون ..
إعادة تأسيس :
—————-
الثورة هذه المرة عزم وتصميم ، ثورة جيل كامل مجذوب لحلم كبير ، حلم يرسم رؤاه ويوجه خطاه ، حلم الوطن الناهض العملاق ، حلم الشعب المنتج السعيد ، وحلم الحقوق الإنسانية المقدسة ، وجد في إعلان الحرية والتغيير تعبيراً ابتدائياً للحلم الكبير فأسلم قياده لقوي ذلك الإعلان لتخطط له مسار الثورة وتعبر عنه ، فهي قيادته طالما التزمت جانب حلمه ورؤاه ، وهو يجسد لها الطاعة المبدعة ، الطاعة التواقة للشهادة بحجم توقها لتحقيق الحلم ..
قيادة الحرية والتغيير ، قيادات الشعب ، هي جزء من زبدة عقول السودان في العلوم وفي المعارف السياسية والأخلاقية النضالية ، فلتستكمل اللوحة بالخبراء الأكفاء من الضباط الذين أحالهم العهد البائد للمعاش (الصالح العام) من الجيش والقوات النظامية والأمنية الأخري ، فإذا كانت قوي الحرية والتغيير مع الأجيال الجديدة تحمل برنامجاً للحياة المدنية في السودان فإن هؤلاء الضباط الخبراء يستكملون لوطنهم بناء الجانب العسكري والأمني .. القوات المسلحة والنظامية الأخري تحتاج لإعادة بناء بمستوىً يليق بالسودان القادم ..
فإذا كان الاهتمام بالقوات المسلحة والأمنية نابعاً من أنها هي التي تحمي الوطن في حدوده وأمنه وسلامة مواطنيه فإنه – الاهتمام – يمتد أيضاً لفئتين أخريتين لا تقلان أهميةً هما القضاء الذي يحفظ الحقوق بين الناس ويفصل في المنازعات المختلفة بعدل ، ثم الفئة التي تعلم وتربي الأجيال ، فئة المعلمين التي تقع عليها المساهمة الاستثنائية في تأسيس إنسان المستقبل ، الإنسان الديمقراطي المستنير .. نحن في حوجة أيضاً لتجميع جهود الخبراء الوطنيين في مجالات التعليم والقضاء وطرحها في مؤتمرات وسمنارات تعمل علي تطويرها ورسم الأسس الجديدة لإعادة التأسيس للمرفقين المهمين ..