اخبار السودان لحظة بلحظة

نفحات الثورة السودانية الثالثة

ما بعد السقوط …تحدي الانتقال واستحقاقات النهوض

بقلم: خالد التيجاني النور

(1)

لم يكن سقوط وتلاشي النظام الإنقاذي وتبخر حزبه الحاكم على هذا نحو المهين حتى دون أن ينال شرف إثبات بعض مزاعمه الجوفاء سوى مسألة وقت لا أكثر، كان خبراً مؤكداً حتى قبل أن يحدث، ليس من باب العلم بالغيب أو تنبؤات عرّافين، ببساطة لأن إرادة الشعب لا يمكن أن تقهر وإن طال الزمن، ولأن أقدار الله ونواميس الكون كان لا بد لها تستجيب وقد أراد الحياة بحرية وعزّة وكرامة، ليس من باب الشعارات الفارغة ولا بالتمنّي على الله الأماني، بل بعمل جسور ونفوس كبيرة، قلوب عامرة بحب وطنها إيماناً بأنها تستحق حياة أفضل لجيل ناهض من شابات وشباب السودان، ومن ورائهم تأييد ودعم ممدود من كافة أطيّاف المجتمع، مما جعله حراكاً اجتماعياً عميق الجذور كسب عقول وأفئدة السودانيين جميعاً، قدموا نموذجاً غير مسبوق في ثورة وعي لم يعرف لها السودان، ولا المنطقة مثيلاً، عالية المقام طويلة النفس، غذّتها دماء وأرواح غالية للشهداء الأبرار الذين روا شجرة الحرية حتى أينعت، ودفع الآلاف من الثائرات والثوار تضحيات جسيماً في مواجهة آلات قهر قمعية اعتقالاً وتعذيباً وتلقي شتى صنوف الانتهكات غير الإنسانية والأخلاقية.

(2)

وحدهم بطانة النظام في مستوياته كافة كانوا يصرون على العيش في غيبوبة وبلادة حس حارت فيها البرية، لا يستجيبون لصيحة تحذير من مصير مشين، ولا لإصلاح ولا لنصيحة، وقد زينت لهم أوهام الغرور أن بوسعهم أن يظفروا بما لم يظفر به أحد في تاريخ البشر تحقيق وهم “الخلود في السلطة” وقد دلّهم شيطان الأنفس الشّح لما حسبوه “شجرة الخُلد، وملك لا يبلى”، حتى استبان لهم ضحى الغد أنها ليست سوى الشجرة الملعونة التي زادتهم طغياناً كبيراً، فأوردتهم خزي نزع الملك وذله. ما كان أغناهم عن ذلك كله لو كانوا تبصرواً في شعاراتهم المرفوعة، وتمثلوا منها شيئاً وامتثلوا له، بل عاثوا في الأرض فساداً وطغياناً وتجبراً في جرأة غير مسبوقة على مقام الحق عزّ وجل وافتراءاً عليه، وقد علموا أن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، وقد بلغ بهم سوء الطوية أن حرموا أنفسهم من نعمة تدبر ما آلت إليه مصائر عدة أنظمة، أكثر عتواً في منطقتنا، ذوت كلها بين غمضةعينه وانتباهتها بإرادة الشعوب التوّاقة للحرية، وكان بوسعهم الاتعاظ منهم، والعاقل من اتعظ بغيره، ولكن غشيهم ظن السوء مثل أولئك الذين كان يحسبون أنهم “أبناء الله وأحباؤه” يجيزون لأنفسهم الجرأة على الله حتى هلكوا، ولم أكن أدرك أن التسلط يورث الغباء، حتى رأيته متحققاً في شأن طبقة الانقاذ الحاكمة.

(3)

لندعهم وشأنهم، فهذه عاقبة من يسر نفسه للعسرى، جراء بخله مستغنياً عن الحق طغياناً، ومكذباً بالحسنى، ولنهنئ الجيل الجديد من شابات وشباب السودان بهذا النصر المجيد الذي انتزعوه عن جدارة واستحقاق وقد أثمرت ثورتهم الظافرة وتضحياتهم الكبيرة في إسقاط عتو سلطة دام طغيانها ثلاثة عقود، أضاعت على البلاد والعباد وقتاً ثميناً خصماً على نهضة يستحقها، فقد دخل السودانيون التاريخ من أوسع أبوابه حين توجت ثورتهم الثالثة بإسقاط أكثر الأنظمة العسكرية عتواً في تاريخه الحديث، وهي بلا شك سابقة في العالم العربي، ولعلها كذلك في مناطق أخرى من العالم، أن ينجح شعب في خلال نصف قرن في تفجير ثلاث ثورات شعبية تنجح في إسقاط ثلاثة أنظمة عسكرية، بالتأكيد إنها أبعد من أن تكون من توابع موجة الربيع العربي إلى استدعاء رصيد تاريخي معلوم للشعب السوداني في مواجهة الأنظمة الشمولية مهما طال بقاؤها في السلطة.

(4)

لقد حقق الثّوار ما كان يظنه الكثيرون المهمة الأصعب، نصراً كبيراً بتحقيق شعار الحراك الأكثر ذيوعاً “تسقط بس”، وقد سقط النظام بالفعل، ووهي مهمة بلا شك لم تكن ممكنة التحقيق بغير هذه التضحيات الجسيمة والإرادة الصلبة التي أرغمت مؤسسات “المنظومة الأمنية”، التي طالما كانت الأداة الأساسية للنظام المخلوع في قمع الاحتجاجات، للخضوع لمطالب الجماهير والانحياز لها، ولعلها من عبّر التاريخ التي لا تنسى، ان يكون من كتب السطر الأخير في حياة نظام الانقاذ هي منظومته الأمنية نفسها التي “أعدها ليوم كريهة وسداد ثغر”، وقد بذل لها من الموارد والامتيازات التي لو أنفقت على قطاعات الإنتاج، لجعلت للبلاد وجه آخر، ولكن ذلك كله لم يغني عنها شيئاً حين جاءت لحظة الحقيقة المرة، لقد تحولّت وجه تلك البنادق ببساطة من التصويب على صدور الجماهير إلى صدر النظام الذي أدخرها لهذا اليوم، فجعلته يتبخر في لحظات.

(5)

لقد انتهت حقبة كالحة في تاريخ السودان، ولئن جاز الفرح المستحق بإسقاط عهد لم يحفظ للبلاد ولشعبها حقه في الحياة الكريمة ، فإن الطريق لا يزال طويلاً للفرح بيوم النصر الأكبر، بتحقيق العبور إلى النهوض، لبلد لا ينقصه شئ من كل معطيات ارتياد الآفاق المحققة لمطالب الثورة الأبية (حرية .. سلام .. عدالة)، فهي ليست مجرد ألفاظ تردد كشعارات بلا معنى، بل مضامين تحتوي على كل ضرورات الانتقال من ضيق أفق النظم الشمولية التي قعدت بالبلاد على طول مكثها إلى تأسيس بنية مؤسسية ذات جذور ثابتة تقود السودان إلى غد أفضل، وبهذا المعنى فإ‘ن إبطال الباطل الذي تحقق، مع كل التضحيات التي قدّمت، أسهل بكثير من أجندة ما بعد السقوط، إحقاق الحق، ولئن تحقق الانتصار بوحدة الهدف والفعل الثوري، فهما كذلك ضمانة لا عنى عنها لعبور فترة الانتقال إلى بر الأمان.

(6)

ليس سراً أن مخاوف باتت تنتاب كثير من المواطنين تجاه ما يبدو مستقبلاً غامضاً للأوضاع في البلاد، وهي حالة ما كان ينبغي لها أن تنشأ في نفوس الناس وهم لا يزالون حديثو عهد بفرح نصر التخلص من كابوس جثم على صدورهم طويلاً، وهو على أي حال ليست مجرد هواجس تأتي من فراغ، ولكن هناك ما يعززها من بروز خلل بيّن في ممارسات بعض القوى السياسية تسببت في كسر وحدة الصف الوطني الثوري بلا مبررات ولا مسوغات موضوعية أعادت للأذهان التنازع الذي غلب غلى الفترات الانتقالية في ثورتي أكتوبر وأبريل، مما أسهم في ضعفها وفي هشاشة فترات الحكم الديمقراطي قصيرة العمر، والناس محقون في تخوفاتهم وهم يرون الطبقة السياسية لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً من أخطاء الماضي التي أنتجت النظام السياسي السوداني المعلوم إلى اليوم.

(7)

لا شك أن السودان مقبل على فترة انتقال ذات تحديات صعبة لكنها ليست مستحيلة، متى ما توفرت الإرادة الوطنية الصادقة لكل الأطراف، فهذا ليس وقت حصر المكاسب الحزبية الضيقة، بل العمل معاً على التمهيد لوضع أسس نظام سياسي جديد يحقق تطلعات الشعب السوداني الثائر، متعظاً بتجارب الماضي، وهي مسؤولية مشتركة سواء بالنسبة للطبقة السياسية التي ينبغي أن تظهر أفضل من عندها حتى لا ترتد بالبلاد لسلطة شمولية مرة أخرى، ومن جهة أخرى تقع على المجلس العسكري الانتقالي مسؤولية أكبر ألا يتخذ من وجود هذه التباينات وسط الطبقة السياسية مبرراً يمكّن بها لنفسه، بل عليه أن يبذل قصارى جهده أن يكون طرفاً فاعلاً في التقريب بين وجهات النظر لا أن يقف متفرجاً، فما دام برر انحيازه للثورة بحقن سفك المزيد من الدماء فإن عليه كذلك أن يثبت أنه أهل لهذه المهمة، وأن تثبت المؤسسة العكسرية أنها تدخلها من أجل تحقيق المصالح الوطنية للشعب السوداني، لقد دفع السودانيون ثمناً باهظاً بسبب استطالة عمر الأنظمة العسكرية التي هيمنت على السلطة معظم سنوات الاستقلال، وهذه هي فرصة أخرى لتثبت أنها موجودة للمساعدة في الانتقال لنظام ديمقراطي وليس لانتهاز الفرصة لإعادة إنتاج نظام شمولي آخر.

اترك رد