من الخارج يسمع انين إنسان مع صرخات مكتومة.. وفي الداخل يأتيه الحارس ليعطيه صحن فول بائس أو بغرض اقتياده لجولة تعذيب ليلية، يأتيه واضعاً في وجهه قناعاً يختبئ من ورائه.. وعندما يتم إطلاق سراحه ويسأله الأهل والأصدقاء: أين كنتم ؟ لا يجد اجابة لأنه بالفعل لا يعرف أين كان معتقلاً، فيقول: كنت في بيت أشباح، نعم: انين وصراخ مكتوم من غرف او بيوت مجاورة وحراس يضعون اقنعةً علي وجوههم لكي لا يعرفهم، فهو فعلاً في بيت به اشباح..
كان هذا بعد العام الاول من عمر انقلاب الجبهة، وبعد ان استكملوا بناء زنازين بيت الاشباح الشهير جوار مكاتب لجنة الاختيار (سيتي بنك)، اذ ان الاعتقال السياسي كان يتم قبل ذلك في أقسام خاصة بالسجون العادية طوال تاريخنا الوطني المعاصر..
هكذا كانت بداية عهدهم، عهد دولة الاسلامويين في السودان.
وفي أيامهم الاخيرة هذه، والثورة مشتعلة في البلاد ضدهم، رأينا رجالاً ملثمين يمارسون الضرب والقتل والخطف بحق المتظاهرين من الجنسين..
عند تحليل ظاهرة هؤلاء الشباب الملثمين بالأقنعة والممتلئين حقداً عجيباً يصبونه علي الناس تعذيباً وتنكيلاً وقتلاً، أقول – عند التحليل والتسبيب – انهم ضحايا تعبئة وغسيل ادمغة بتركيز وتكثيف.. والبديهي ان الأساس في التعبئة وغسيل الدماغ هو أساس ديني/إسلامي يرتكز علي أنك (اننا) المسلمون وهم الكفار، نحن الحق وهم الباطل، نريد ان نبني دولة الاسلام وهم أعداء ذلك… الخ.
المدهش ان هذه التعبئة الدينية/الاسلامية يترافق معها التحريض والتدريب علي اللجوء للعنف البدني واللفظي بإفراط مع اللذين يقعون في (الأسر ) لديهم، ولهم ان ( يتفننوا ) ما تشاء لهم أخيلتهم في انواع التعذيب والإيذاء ولا حرج اذا افضت الي الموت، نعم، لا بأس فلك علينا الحصانة والحماية لأنك المسلم القوي الحريص علي دينه والمدافع عن دولته من كيد الكفار المندسين المارقين ( ولا يهم أبداً أنهم أبناء وطن واحد وإخوة فيه )..
وتزداد الدهشة عندما نجد ان التعبئة لا تقف عند حدود التحريض علي العنف والقتل وإنما تصل حدود الإيذاء النفسي/الجنسي بالاغتصاب للرجال والنساء والحوادث الدالة علي ذلك كثيرة وموثقة في وقائع البلاغات التي دوّنها بشجاعة عدد من النساء والرجال؛ جرعة التعبئة تحتوي علي إقامة الاسلام الحنيف وتحرض في سبيلها علي أعمال العنف حتي درجة القهر النفسي/الجنسي بالاغتصاب، أي انها جرعات تحتوي علي متناقضات مذهلة، ولكنها، وقد تمت ممارستها بشكل مستمر منذ ثلاثين عاماً وحتي اللحظة، فانها تعبر عن حقيقة (الاسلامويين) وجوهرهم الميكافيلي ودواخلهم المهزومة المنحرفة..
نحن امام أعداء لا حصر لهم من عناصر الأمن والمليشيات السرية، هم الآن أعداء للشعب السوداني وطلائعه المناضلة، أعداء للثورة الجارية في البلاد ويعملون علي إخمادها بكل الوسائل بما فيها القتل، ولكن الثورة ستنتصر وستقوم دولة (حرية سلام وعدالة)، فهل ستتركهم فقط للعدالة ومحاكمها أم هنالك مسئولية اخري تجاههم ؟، نعم، مارسوا ما مارسوا ولكننا نسمع شباب الثورة يهتفون يومياً (سلمية سلمية) ونشاهدهم يقدمون الماء والعلاج للأعداء ، نعم، مارسوا ما مارسوا ولكنهم ضحايا تجنيد وتعبئة وغسيل ادمغة من نوع خبيث، والثورة حب وانسانية في المقام الاول، الثورة لن تنظر اليهم بعد المحاكمات كأعداء بل بشراً وإخوة في الوطن يحتاجون الي اعادة تأهيل نفسي وأخلاقي لكي يعودوا الي الحظيرة الانسانية السوية.. في تحقيق العدالة بالمحاكم وإجراءاتها ثم تطبيق منطوق القوانين عليهم، في ذلك اقتصاص لضحاياهم فتنتهي صفة المجرمين عنهم لتبقي صفة انهم ضحايا.. ستنظر لهم الثورة ودولتها القادمة علي هذا الأساس