1. التوقيت: في محاولة لردم الفجوة بين سعر الصرف التأشيري الرسمي للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية قابلة التحويل وسعر صرف السوق الموازي، أعلنت الحكومة الانتقالية سعر صرف جديد (375 جنيه/للدولار) بدأ تنفيذه يوم 21 فبراير 2021. من ناحية التوقيت للأسف يأتي القرار في ظروف استثنائية يعاني فيها الاقتصاد والناس من مستويات قياسية لسعر الصرف في السوق الموازي (أكثر من 350 جنيه/للدولار)، ومعدلات تضخم لم يشهد السودان لها مثيلا (304% يناير – فبراير 2021)، ما يعني أن القرار سيؤدي إلى مزيد من تأزيم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
2. غياب الإجراءات الاحترازية: على عكس السياسات المصرفية لعام 1988م أبان فترة الديمقراطية الثالثة – بعد موافقة صندوق النقد الدولي – حيث تم استحداث سعر صرف تجاري (12.20 جنيه للدولار) بجانب السعر الرسمي (5 جنيه للدولار) لم يسبق تنفيذ السياسة الجديدة أي إجراءات احترازية مثل مسح سوق العملة داخليًا وخارجيًا لمعرفة الجهات المسيطرة عليه وكيفية التعامل معها، تخصيص نوافذ للنقد الأجنبي في كل البنوك وفروعها، تواجد نوافذ بنكية تعمل بالليل في الأسواق النشطة وأماكن تجمع السياح والمغتربين، والتأكد من عدم تواجد طفيلية دولار/ريال أمام البنوك والمصارف ونوافذها بالنهار والليل. بالتالي، فالسياسة ولدت شبه “لقيطة”، سيحاول السوق الموازي إفشالها في مهدها.
3. لا تعويم ولا توحيد: في واقع الأمر الإجراء ليس تعويمًا أو توحيدًا للعملة الوطنية، بل هو مجرد سعر صرف جديد لمنافسة السوق الموازي على المتاح من موارد النقد الأجنبي خارج القنوات الرسمية. فالتعويم يتطلب أولًا توحيد أسعار الصرف المتعددة الموجودة حاليًا بما فيها سعر صرف السوق الموازي، وهذا لم يحدث، ما يعني أن الحكومة ما زالت بعيدة عن إرضاء صندوق النقد الدولي الذي لا تسمح لوائحه بتعدد أسعار الصرف.
4. السعر المرن المدار: بني القرار على ما يسمى سعر الصرف المرن المدار! وهذا إرث إنقاذي عرف بسلحفائيته غير المعهودة، أو كما تقول الأغنية “يمشي خطوة إتنين مستحيل” أي كأن البنك المركزي يعلن سعر صرف يتماشى مع سعر السوق الموازي ثم يغط في نوم عميق حتى يحلق سعر صرف السوق الموازي حيث لا كائنات …. فيصحو البنك ويلحق به ثم تتكرر السلحفائية مرة أخرى. للأسف ليس هناك ما يوحي إلى أن سياسة السعر المرن المدار المعلنة ستختلف عن سابقها، ما يعني أننا قد نشاهد فيلم تجريب المجرب مرة أخرى، خاصة بعد تصريح وزير المالية الجديد بأن السياسة ليست “تعويمًا كليًا” لسعر الصرف المرن المدار.
5. دوافع القرار: هناك تناقض وتضارب واضحين في دوافع القرار! فها هو وزير المالية الجديد يقول: “لا توجد أي جهة فرضت على الحكومة اتخاذ القرار”. ثم بعد ذلك بقليل يقول الرجل أن بريطانيا رهنت سداد متأخرات بنك التنمية الأفريقي لدى السودان بتوحيد سعر الصرفّ ثم ثالثة الأثافي: “ الجهات الدولية المانحة أبلغتنا صراحة أنه إذا قمتم بهذه الخطوة سندعمكم في تخفيف أعباء الديون الخارجية..، وتقديم منح وقروض تنمية، ولذلك قررنا نحن في الحكومة توحيد سعر الصرف”!! كل ذلك يؤشر الى أن القرار لم تدرس تداعياته المالية والاقتصادية ولم يبنى في إطار سياسات اصلاحية كلية كما هو مفترض!
6. من الضربات الموجعة للسياسة أتت للأسف من وزير المالية الذي أعلن في المؤتمر الصحفي لاعلان سعر الصرف الجديد أن الحكومة وضعت كل الترتيبات لعرض كافي من العملات الأجنبية للتحكم في سعر الصرف.. بالإضافة إلى توقع تدفقات لعملات أجنبية..! ثم أردف في مكان آخر أن الحكومة قامت باستيراد “.. كل احتياجاتها من القمح والوقود والدواء بأسعار محددة..” !! هكذا كان ديدن الإنقاذ في إطلاق التصريحات عديمة المصداقية لتخويف السوق الذي يعرف المستور لذلك يقوم بتوجيه ضرباته الموجعة لسعر الصرف دون خوف أو وجل، وهذا ما يخشى حدوثه للسياسة الجديدة منذ مولدها.
7. تأثير القرار على الأسعار والمعيشة: سعر الصرف هو أبو الأسعار وحركته لها تأثيرها المباشر وغير المباشر على بقية الأسعار. فرفعه يؤثر سلبًا على المستوى الكلي للأسعار، وبالتالي على معاش الناس. ودرجة التأثير تعتمد على مقدار رفعه. فزيادة سعر الصرف بالقدر الذي تم تنفيذه، حتمًا ستكون له آثار مدمرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة أصلاً. لكن يبدو أن للحكومة رأي آخر، حيث صرح وزير المالية الجديد بأن القرار لن يؤثر على أسعار السلع الاستراتيجية، “..لأن الدولة هي التي تتولى استيرادها وستوفر الموارد لاستيرادها”! هذا يؤكد تخوفنا في الفقرة (4) بأن سياسة سعر الصرف الجديدة يبدو أنها جديدة في شكلها وقديمة في مضمونها.
8. القرار وموازنة 2021م: بنيت موازنة العام 2021م على سعر صرف حسابي يساوي 55 جنيه/للدولار(السعر التأشيري الذي ألغي الآن) هذا يتطلب إعادة تضريبات الموازنة، خاصة فيما يتعلق بالقروض والمنح ومبيعات النفط المحلي… إلخ. ما يدعو للدهشة أن وزير المالية لم يتعرض لتأثير سياسة سعر الصرف الجديدة وتداعياتها على الموازنة العامة!
9. رد فعل السوق الموازي: كالعادة السوق الموازي سيتبع سياسة النفس الطويل، أي جانب الحيطة والحذر في البداية ثم تحريك أسعاره تدريجيا لامتحان خطوات الحكومة ومقدرتها على المنازلة. فإن عادت حليمة إلى قديمها وتخلفت السياسة الجديدة عن المجاراة فسيستحوذ السوق الموازي على موارد النقد الأجنبي مرة أخرى.
10. سياسة سعر الصرف لا بد أن تكون جزءً من سياسات مالية واقتصادية متكاملة تنفذ بالتزامن. فإذا لم تدعم الحكومة السياسة بسياسات مالية قوية (ضبط المالية العامة بالتحول من التركيز على الصرف الجاري على حساب التنمية)، واتباع ذلك بسياسات مكثفة لتحريك الاقتصاد الحقيقي (الزراعة، الصناعة ,, الخ.) خلال الستة أشهر القادمة، فلن تستطيع السياسة الصمود أمام ضربات السوق الموازي.
المصدر: صحيفة الانتباهة