اخبار السودان لحظة بلحظة

السودان: أ. صلاح الطيب الأمين يكتب: يا لجنة الأجور: أعيدوا للمعلم المعاشي الوقار والهيبة والابتسام!!

الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل

تبقى صفة العلم المطلقة لله سبحانه وتعالى لأنها اسم من أسمائه, فهو العليم (إن ربك هو الخلاق العليم ) الحجر:86 وهو المعلم (علم الإنسان ما لا يعلم ) العلق 5، كما وردت أحاديث تؤكد دعوة الإسلام الى تكريم المعلم (إنما بعثت معلماً) وتتطابق مع قول شوقي:
قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا تميز المعلم السوداني عبر الأجيال بالتعامل الايجابي مع المجتمع في كل مجالاته وقطاعاته، فاذا اعتبرنا الخلوة من المؤسسات التربوية الرائدة التي تمتد جذورها الى أعماق التاريخ السوداني، نجد أن معلم الخلوة الشيخ أو الفكي أو سيدنا قد اكتسب الطهر والنقاء والهيبة والوقار، وعند قيام مؤتمر الخريجين شارك المعلمون في انتشار التعليم باعتباره مفتاحاً للتغيير نحو الأفضل، وكان معلم ذلك الزمن الزاهر الجميل أفضل الناس عيشاً وانعمهم بالاً واكرمهم طباعاً واجلهم قدراً، فهو يبعث بالكلام حتى كأن الألفاظ تتحاشد في التسابق على خواطره، والمعاني تتغير في الامتثال لأوامره، يلبس ابهى الثياب وأغلاها، ويضمخ نفسه بأبهج العطور، وأنه لو عبر طريقاً ما يعلم الناس انه مر من هنا..! وكان المعلم يتصف بالرزانة المترفقة الهادئة التي تضفي على الإنسان أردية كثيفة من الحب والهيبة والجلال والتقدير، وكان حلماً يراود قلوب العذارى اللائي يترنمن:
(يا ماشي لي باريس جيب معاك عريس شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس).
وكان انضباط التلاميذ بهيبة المعلم وليس برهبة العصا، وكانت المدرسة مركز إشعاع تتفاعل مع المجتمع وتنفعل به، وإذا شبهنا المدرسة بكائن ينبض بالحياة فالمعلم هو القلب الذي يزود هذا الكائن بكل مقومات الحياة، لأنه متى ما صلح المعلم صلحت المدرسة وصلح المجتمع كله، يقول الفيلسوف التربوي (جون ديوي) في كتابه (المدرسة والمجتمع)!! المدرسة هي جنين المجتمع والذكاء البشري اجتماعي، أي أننا نبعث بنظرياتنا وأفكارنا بقوة الايحاء الاجتماعي الذي ينغرس في نفوسنا في المجتمع الذي نعيش فيه. وفي ذلك الزمن البهيج انتمى المعلم إلى المجتمع المدرسي بكل تفاصيله، والى المجتمع العريض بكل قطاعاته، حاملاً الهموم والتطلعات والأشواق لتحسين الرصيد القومي من المواطنين لممارسة الديمقراطية والمشاركة الإيجابية في مناقشه القضايا القوميه وكل ما يفيد المواطن السوداني للتطور والرقي، وتغلغل المعلمون في المجتمع أصحاب رسالة ورسل معرفة ومصابيح هداية وقناديل عطاء وقادة للعمل التربوي والاجتماعي والتنموي في كل ربوع السودان، وكانوا كالرياحين نكهةً وتألقاً وكاقمار الضواحي دوام وبلا مؤامرات، يعلمون بكل صبر وإيمان وصدق، فالمعلمون لا تخترقهم السياسة والجهوية والقبلية وقلوبهم على الوطن، حيث وصفهم الشاعر المعلم إدريس جماع:
هو كالعود ينضح للناس عطراًويفنى تحرقاً واشتعالاً
فكان زكي في كاتشا وأوشيك بكادقلي وإيدام بسنكات وخيري بمريدي ومبيور بدنقلا ونايل بأم درمان، وكان عطاء ذلك الجيل الباذخ الزاهر العطاء والأحاسيس الجميلة ممتداً لكل أرجاء الوطن لالتقاط كل مواطن الخير والبهجة والقوة والإشراق، وهكذا هم دائماً نحو الأفضل.. (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر:10 تشربوا بالثقة والانضباط والالتزام، يزيدهم الزمن هيبة ورزانة ووقاراً (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) الكهف :13، وامتطوا صهوة المجد شموخاً ونبلاً
وأصالة، تدفعهم الإرادة فضيلة الفضائل، حملوا الرساله وزادوا الأمانة بكل إيمان المعلمين، وكانوا رواداً للوحدة الوطنية وتأكيداً للهوية السودانية وتوحيداً للأفكار المتنافرة ونبذاً للتفرقة والشتات رافعين شعار: لن تسعوا الناس بأموالكم، بل ببسط الوجه وحسن الخلق، لقد اتفق خبراء التربية والتعليم على أن الدول التي تمارس خطاباً عالي النبرة تعتمد أساساً على قوة العلم، وبفضل العلم تمتلك هذه الدول كل وسائل القوة للدفاع عن شعوبها، وتوفر لهم وسائل الرفاهية والحياة الكريمة، وعلى هذا النهج بدأت بخت الرضا عام 1934 مؤسسة تربوية متكاملة وشاملة، وتم القبول لها من كل أنحاء السودان بمختلف مواقعهم الجهوية والقبلية تحت سقف مظلة تربوية وقومية تصهرهم في بوتقة الوحدة الوطنية، وامتزجت قناعة الريف وأخلاق القرية بصخب وضجيج ولهاث المدينة، وكان الطريق ممهداً لإزالة الانفصام بين القرية و والمدينة، وتم ربط هؤلاء الطلاب فكرياً ووجدانياً وخلقياً بالقدر الذي ينمي مقدراتهم ويشجع فيهم روح القيادة والمسؤولية، وكان الهدف التربوي الأهم إعداد المعلم الشامل متعدد المواهب: المعلم الإمام، المؤذن، المأذون، رئيس لجنة الحي، سكرتير النادي وريحانة المجالس، ونظم المعلم الرقم رائد الوحدة الوطنية الأستاذ عبد الرحمن علي طه قصيدة، حيث قام بزيارات ميدانية واقعية طاف فيها على كل أنحاء السودان بدايةً بالقوليد شمالا ويامبيو جنوباً وريرة شرقاً والجفيل غرباً، ليؤكد الانتماء الراسخ للهوية السودانية والوحدة الوطنية، ومن بعده جاء الأستاذ عبد اللطيف عبد الرحمن متخذاً مفهوم الوحدة الوطنية كتجربة وأحاسيس وعقل وارتباط ووسائل تصل من خلالها العملية التربوية الى الآخرين، فنجح في إرساء وترسيخ وتأكيد الوحدة الوطنية حين قال  :
أنت سوداني وسوداني أنا
ضمنا الوادي فمن يفصلنا
نحن روحان حللنا بدناً
منقو قل لا عاش من يفصلنا!!
وعلى نار هادئة وبعد عقدين من الزمن، أنجبت بخت الرضا صفوة من خيرة أبناء السودان، وتزامن ذلك مع بداية الاستقلال، وكان أولئك بنات السودنة ولحمها وسداها، فكان منهم السفراء: عوض ساتي، جمال محمد أحمد وأول مدير لجامعة الخرطوم: نصر الحاج علي ومكي عباس أول محافظ لمشروع الجزيرة، ورؤساء الوزراء المحجوب وسر الختم الخليفة، ووزراء التربية حسن أحمد يوسف ومحمد خير عثمان، ومن الشعراء إدريس جماع وجعفر محمد عثمان وعمران العاقد والدوش، ومن الصحافيين بشير محمد سعيد ومحمد توفيق وحسن نجيلة، ومن الرياضيين برعي أحمد البشير وامين زكي، ومن المطربين محمد وردي ومحمد ميرغني ومصطفى سيد احمد، وعمداء ببخت الرضا ووكلاء للتربية والتعليم، ومن افذاذ علماء اللغة العربية البروف عبد الله الطيب، ومن المهتمين بأمر البيئة د. أحمد محمد سعد الذي ترجم نشيد (لن ننسى أياماً مضت) من الانجليزية الى العربية، لقد شهدت الخمسينيات والستينيات العهد الذهبي لمكانه المعلم السوداني داخل وخارج الوطن، وكان المعلمون السودانيون رواداً وخبراءً للتعليم في كل الاقطار العربية والافريقية سفراءً من ذهب مظهراً ومخبراً، واتصفوا بالمقدرات المهنية مما اكسبهم الثقة وتقدير واحترام الجميع، فقد أرسى شيخنا سفير القيم التربوية الأستاذ الجليل سعيد القدال قاعدة التعليم في حضرموت، وحينها تم تعيينه في أعلى المناصب التربوية، ود. محمد خير عثمان مستشاراً تربوياً للسلطان قابوس بسلطنة عمان، وزميلنا وأول دفعتنا صاحب نشيد الاستقلال مستشاراً تربوياً بالبحرين، والشاعر المتقدر رصين القوافي المعلم الشاعر كجراي وواسطة العقد التربوي السوداني البروف عبد الله الطيب في نيجيريا .
هذه الثروة القومية تعرضت للتبديد عند شيوع الاستبدال السياسي الذي يقدم أهل الولاء والتمكين على أهل الخبرة والمعرفة، فالمزايدات السياسية لتدجين المعلمين أفرزت معلم الصدف والغفلة وإدارت تربوية تحكي الضياع والقيام التربوي، وأصبح معلم اليوم مكتوف اليدين، حبيس اللسان، مهزوم التطلعات، مشتت التركيز، كاسف البال، قليل الرجاء، متدحرجاً إلى قاع السلم الاجتماعي، ولا يجد من يسنده أو ينقذه  .
خبير تربوي
المنتدى التربوي السوداني

The post السودان: أ. صلاح الطيب الأمين يكتب: يا لجنة الأجور: أعيدوا للمعلم المعاشي الوقار والهيبة والابتسام!! appeared first on الانتباهة أون لاين.

اترك رد