اخبار السودان لحظة بلحظة

قوانين عبد الباري وتناقضها مع الوثيقة الدستورية وحقوق الانسان

نقد تعديلات قوانين حكومة العسكر – قحت من وجهة نظر علمانية

بقلم عادل عبد العاطي

طرحت وزارة العدل السودانية عددا من مشروعات تعديلات للقوانين كانت اهمها في القانون الجنائي؛ وهي تعديلات لا تمس في الاساس منهجية وفقه القانون الإنقاذي؛ وتمتد أكثر لتعديل القوانين على أساس تمييز المواطنين بسبب الدين، بما يخالف اولا الوثيقة الدستورية، وثانيا حقوق الانسان كما معبر عنها في العهود الدولية لحقوق الانسان.

إن هذا التناقض ليس هو الأول في مسار حكومة عسكر – قحت، فقد كنا أشرنا من قبل لمخالفة قرارات وزير الصناعة وتمييزه بين المواطنين السودانيين وحقوقهم في التجارة والبيع والشراء والتواجد في الأسواق للوثيقة الدستورية، حيث منحها فقط للمواطنين السودانيين بالميلاد وحرم منها السودانيين بالتجنس. كما أشرنا لمخالفة قرار ابعاد مواطنين سودانيين من بلادهم للوثيقة الدستورية ومرجعيتها التي ضمنتها في صلبها أي العهود الدولية لحقوق الانسان.

مخالفة تعديلات القوانين للوثيقة الدستورية:

تخالف تعديلات القوانين المقترحة من وزارة العدل الوثيقة الدستورية التي وقع عليها طرفي قحتر، والتي ترفض اي تمييز بين المواطنين على اي اساس؛ وترفض تحديدا (مما فصلته من رفض التمييز) التمييز على اساس العقيدة الدينية، بينما مشاريع التعديلات تقوم على اساس التمييز بين المواطنين دينياً.

تقول الوثيقة الدستورية في المادة 44 منها (تكون المواطنة اساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين). بينما تقول في المادة 47 منها (الناس متساوون أمام القانون؛ ولهم الحق بالتمتع بحماية القانون دون تمييز بينهم بسبب الاثنية أو اللون أو النوع او اللغة او العقيدة الدينية او الرأي السياسي أو الأصل العرقي أو الأثني أو أي سبب آخر).

هذه المواد تلغي اي تمييز بين المواطنين بسبب الدين. ومن هذا المنطلق كان ينبغي على التعديلات القانونية ان تؤسس القوانين على اساس المواطنة؛ وان تلغي كل تمييز يكون في القوانين على أساس الدين. ولكنها بدلا من ذلك سارت على الطريق الإنقاذي لتفريق المواطنين دينيا والاتيان باحكام تمييزية بينهم على هذا الاساس. ان هذا المنهج يسقط مبدأ المواطنة كأساس للحقوق والواجبات ويحل مكانها مبدأ الدين، بينما يعارض تماما المادة 47 من الوثيقة الدستورية، لان التعديلات القانونية تميز المواطنين بالضبط على اساس العقيدة الدينية.

مخالفة التعديلات لمرجعية التشريع (العهود الدولية):

لأول مرة في تاريخ السودان لم تتحدث الوثيقة الدستورية عن مصادر التشريع، وتحديدا لم تنص على ان تكون الشريعة الاسلامية لا المصدر الرئيسي للتشريع ولا احد مصادر التشريع. بالمقابل اضافت الوثيقة مصدرا بديلا للتشريع وهو معاهدات حقوق الانسان العالمية حيث قالت في الفصل الرابع عشر من الوثيقة الدستورية (وثيقة الحريات والحقوق) التالي: (تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءاً لا يتجزأ من هذه الوثيقة.). بالتالي اصبحت تلك الاتفاقيات والعهود والمواثيق جزءا من الوثيقة الدستورية ومرجعا لصياغة لقانون السوداني؛ فماذا يقول مثلا الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صادقه السودان بعد الاستقلال مباشرة والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادق عليه السودان في 18 مارس 1986عن تمييز المواطنين على الاسس الدينية؟

يقول الإعلان العالمي لحقوق الانسان في المادة الأولى منه (يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء.) بينما يقول في المادة 2 منه (لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر. وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلا أو موضوعا تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أم خاضعا لأي قيد آخر علي سيادته.)

ويذهب الإعلان أكثر ليؤكد هذه المساواة حينما يقول في المادة 7 منه (الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز.).

بينما يقول العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية في الجزء الثاني المادة 2 منه (. تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.) ويقول في المادة 4 من ذات الجزء الفقرة 1 : ( في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي) أي انه حتى في حالات الطواريء لا يجوز التمميز بين الناس بسبب العرق او الدين الخ ) بينما تقول في المادة المادة 14الفقرة 1 ( الناس جميعا سواء أمام القضاء. ) وتفصلها اكثر في المادة 26 التي تقول (الناس جميعا سواء أمام القانون ويتمتعون دون أي تمييز بحق متساو في التمتع بحمايته. وفي هذا الصدد يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب، كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.)

نماذج من بعض التعديلات القائمة على اسس دينية:

لعل اكبر نموذج للتعديلات القائمة على أسس دينية هي تعديل المادة [79] من القانون الجنائي أي التعامل في الخمر، والتي كانت تنص على التالي: (من يتعامل في الخمر بالبيع أو الشراء، أو يقوم بصنعها أو تخزينها أو نقلها أو حيازتها وذلك بقصد التعامل فيها مع الغير أو يقدمها أو يدخلها في أي طعام أو شراب أو مادة يستعملها الجمهور أو يعلن عنها أو يروج لها بأي وجه يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز سنة كما تجوز معاقبته بالغرامة. وفى جميع الحالات تباد الخمر موضوع التعامل.)

تعديل عبد الباري لها هو التالي (كل مسلم يتعامل في الخمر بالبيع أو الشراء، وكل شخص يتعامل مع مسلم في الخمر بالبيع أو الشراء، أو يقوم بصنعها أو تخزينها أو نقلها أو حيازتها إذا كان مسلماً أو كان ذلك بقصد التعامل فيها مع المسلمين، أو يقدمها أو يدخلها في أي طعام أو شراب أو مادة يستعملها الجمهور أو يعلن عنها أو يروج لها بأي وجه يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز سنة كما تجوز معاقبته بالغرامة، وفي جميع الحالات تباد الخمر موضوع التعامل.)

نلاحظ هنا ان نظام الإنقاذ رغم مرجعيته الاسلاموية، لم يميز بين المواطنين في هذه المادة، بينما ميزت تعديلات عبد الباري بينهم. وكما أشار بصورة سليمة الدكتور معتصم الاقرع فإن هذه (الطريقة التي يتعامل بها قانونه مع الكحول تمييزية بامتياز، فهناك قانون للمسلمين وآخر لغير المسلمين وهذا يهزم تصريحه السابق.) وان هذه المادة (لا تنتهك حق المسلم فحسب، بل ينتهك حق غير المسلم. إذا لم يكن لغير المسلم في ثقافته أو دينه ما يمنعه من بيع الكحول لمعتنقي الديانات الأخرى، فلماذا يعاقبه قانون بـاري؟ لماذا يجبر القانون غير المسلم على التمييز ضد المسلمين في تجارة الكحول برفض البيع لهم؟)

أيضاً نلاحظ إن الأغلبية من مصنعي وبائعي الخمور ومستخدميها في السودان اليوم هم من المسلمين. إن هذا القانون سيروج لممارسة خطيرة في مجال الضمير وهي انكار الناس لدينهم للهرب من العقوبة. ومرة أخرى سندخل في جدل قانوني حول من هو المسلم وغير المسلم. ان عبد الباري إذا كان يرى ان شرب الخمر ليس بجريمة فيجب ان يلغي الجريمة وعقوبتها على الجميع، لا ان يميز بين المواطنين ويضطر بعضهم للكذب والنفاق.

أيضا نلاحظ ان التعديلات أبقت على كل ما يسمى بالجرائم الحدية والعقوبات الحدية، ومن بين ذلك ما يسمي بجريمتي اللواط والزنا. وتذهب لمعاقبة مرتكبي ما يسمي بجريمة اللواط حتى السجن المؤبد والاعدام فيما يتعلق بما يسمي جريمة الزنا. ومن الواضح ان هذه احكام مبنية على الشريعة الإسلامية السلفية والتي ليست مرجعاً للقانون في السودان (وفقاً للوثيقة الدستورية) ومخالفة للعهود والمواثيق الدولية؛ التي لا تجرم الممارسات الجنسية الطوعية بين الراشدين ولا تعاقب عليها.

كما ان تعديلات القوانين في التعامل مع ما يسمي بجريمة الدعارة تستهدف النساء في المقام الأول؛ حيث ان المادة 154 الفضفاضة الملغية كانت تعاقب كل الطرفين في العملية الجنسية حيث تقول في الفقرة الأولى منها (يعد مرتكبا جريمة ممارسة الدعارة من يوجد في محل للدعارة بحيث يحتمل ان يقوم بممارسة أفعال جنسية او يكتسب من ممارستها، الخ) بينما يقول التعديل في الفقرة 1 من المادة الجديدة ( يعد مرتكبا جريمة الدعارة من يوجد في محل الدعارة بقصد تخديم خدمة جنسية لآخر بمقابل او بدونه، مع عدم وجود أي رابطة شرعية بينهما) . ان هذا التعديل يبرئ عمليا مشتري الخدمة بينما يجرم ويعاقب مقدم/ة الخدمة؛ واللاتي هن في الغالب من النساء الفقيرات. ويغدو هنا غريبا ادخال مصطلح (الخدمة الجنسية) الغربي ذو المدلول الليبرالي والذي اتى في الأساس لحماية العاملات في الخدمات الجنسية، في إطار هذا القانون القروسطي المبني على الشريعة الإسلامية وتدخل الدولة في حديد العلاقات الشرعية من عدمها.

هل هذه التعديلات هي الأولوية وهل يحق للحكومة اجازتها؟

من الواضح ان التعديلات المطروحة ليست هي الأولوية، وانما هي جزء من آليات شغل الرأي العام وصرفه عن النظر في فشل حكومة قحتر. فما نحتاجه اليوم هو قوانين وتشريعات في مجال الاقتصاد والإدارة العامة. نحتاج الى قانون مفوضية الخدمة المدنية، نحتاج الى قوانين تحفيز النشاط الاقتصادي والاستثماري، نحتاج الى قوانين محاربة الفساد، كما نحتاج لقوانين معالجة مشاكل الأرض وملكيتها، وهي من القضايا الكبرى في السودان.

كما ان هذه التعديلات المبتسرة والغير مبنية على أي منهج تعبر عن كسل فكري وقانوني. فما نحتاج اليه فعلاً ليس هو ترقيع قوانين الإنقاذ وعمل تعديلات طفيفة عليها تعتمد على نهجها وتحافظ على صلبها، وانما نحتاج لإصلاح قانوني شامل وديمقراطي، وهو امر لن تقوم به الا سلطة ديمقراطية منتخبة وذات برنامج ليبرالي علماني واضح. اما إذا أراد القائمون على السلطة الحالية صياغة القوانين وتعديلها، فيجب ان يتم هذا بناءاً على المرجعية القانونية الأساسية السارية (أي الوثيقة الدستورية على علاتها) والمعاهدات الدولية لحقوق الانسان، لا على مرجعية الإنقاذ الاسلاموية الفاشلة ومنهج التمييز والتفريق بين المواطنين.

كما تبرز قضية كبرى وهي حق الحكومة الحالية في إجازة قوانين لم تحظ باي درجة من الحوار المجتمعي ومن أطراف لا تملك أي تفويض شرعي وقانوني للحسم في قضايا مثل هذه. ان هذه القوانين لن ترضي لا الإسلاميين ولا العلمانيين، وهي ستفتح الباب للمزيد من الاستقطاب والصراع المجتمعي؛ وكان من الاحرى بها ان تودع قيد الانتظار حتى تحسم فيها الحكومة المتتخبة والبرلمان المنتخب، او في اسؤا الأحوال حتى قيام المؤتمر الدستوري الموعود، او المجلس التشريعي الذي لا يزال في رحم الغيب.

بلادي كلما ابتسمت، حط على شفتيها الذباب.

اترك رد