اخبار السودان لحظة بلحظة

بخيت( 1945_2018)

<

p style=”text-align: right;”>
سيل من العناوين البراقة دارت بخلدي وحاولت جاهدا أن أنتقي واحدا منها يصلح عنوانا أزين به هذه الخواطر في حق أحد الرجال الشجعان وأبرز النجوم السواطع الذين رفدتهم مدينة  العيلفون إلى الساحة الرياضية فأعطوا وأبدعوا وتألقوا ونقشوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجل التاريخ وظلوا عالقين في أذهان كل من شاهدهم وعايش حياتهم .
من بين هذا السيل المتدفق من العناوين المثيرة الجاذبة  صدقوني لم أجد أبلغها دلالة وأجلها  معنى من الذي اخترته عنوانا لهذا الموضوع  (بخيت) !! هذه الكلمة وقعها وجرسها كاف لتنداح عنها  عشرات المعاني والدلالات خاصة من أبناء الجيل الذي عايش تلك الفترة  الزاهية  من تاريخ الحركة الرياضية بالعيلفون.
كابتن بخيت اسمه بالكامل( بخيت الشيخ إدريس بخيت أو  بخيت الجلد وفق ما اشتهر )  الجلد هذا لقب أبيه عليه الرحمة والمغفرة .
ما أوحى لي بكتابة هذه اﻷحرف العجلى والمرور السريع  في مسيرة  لاعب كبير ومؤثر ؛ الجدل الذي دار في احد القروبات اﻹسفيرية خلال اﻷيام الفائتة حول مشاركة الكابتن بخيت للعب أولا لموردة العيلفون ثم بعدها لمريخ العيلفون .
كنت محظوظا أن شاركت في أول مباراة رسمية  مع الوفاق في العام ( 1972م) قبل نشأة الاتحاد في العام(1974م) وشاء قدري أن ألعب ظهيرا أيسر في مواجهة الكابتن بخيت ووفقت في هذه المباراة بطريقة أو بأخرى أن أحد ولو بقدر بسير من خطورته …هذه المباراة أعطتني قدرا من الشهرة والثقة وقدمتني كلاعب أساسي في صفوف الوفاق الذي كان  وقتها يعج  بالنجوم والمواهب وأفذاذ اللاعبين …جماهير الرياضة  والوفاق والمريخ جميعهم  لسان حالهم  كان يردد (كيف شافع زي دة يمسك بخيت ؟!!) والشاهد أن بخيت كان يلعب في مواجهتي بقدر من اللين والمرونة غير لعبه العنيف الذي اعتادت عليه جماهير الرياضة بالعيلفون وربما كان تعامله معي بهذه الرأفة  عطفا على صغر حجمي وعمري الذي يعادل في ذلك الوقت الصف السادس أساس  ولكم ان تقارنوا  وتتأملوا الفرق بين جيل وآخر .
ليت أبناء الجيل الحالي لو حضروا زمان بخيت ولعب بخيت وهيبة بخيت وجمال بخيت !!.اذاً لغيروا نظرتهم في  كل ما نمارسه اليوم من عك كروي في الميادين المختلفة.
بخيت كان لاعبا اسطوريا بحق وحقيقة ويتمتع بكامل الصفات التي لا تتوافر في لاعبي برشلونة اليوم … بنية جسمانية مثالية  (ماردونية فولاذية  ) …قوة …مهارة ..سرعة …رشاقة وكان بوسع بخيت  ان يحرز هدفا في أي لحظة من لحظات  المباراة …صيحة واحدة من عبد الرحيم الدنقش أو المرحوم مكي أبو عركي  أو العريس بابكر مناع في زهو الشباب … بخيت …بخيت … تكفي لتفجير بركان بخيت فهذه ليست كلمة للاستهلاك او صراخا عابرا تذروه الرياح وإنما تمثل محكا للسر لا يفك شفرته  إلا  بخيت وتعني في مفهموها العميق ( يا بخيت جيب قون) فسرعان ما يستجيب بخيت للنداء  ويحرز اﻷهداف ويمطر الشباك ويجعل العمم تتطاير والطواقي تتقاذف إلى داخل الملعب  !!! .
لعل الجميع يتساءلون بأن لاعبا بهذه المواصفات لماذا لم يلعب في قمتي الكرة السودانية الهلال أو المريخ ؟ هناك عدة أسباب ومبررات منها الضعف اﻹعلامي ومنها تركيز قمتي الكرة على أبناء ام درمان ومنها ايضا أن ممارسة الكرة في ذلك الزمان كانت اقرب للهواية وإمتاع النفس منها إلى الاحتراف ( الكثيرون من لاعبي العيلفون في تلك الفترة مستواهم كان يؤهلهم للعب في اندية القمة ( ولعل بخيت كان واحدا من هؤلاء النجوم  لكنه اختار اللعب في نادي ديم سلمان بالخرطوم وأبلى بلاء حسنا .
بخيت كان مهابا داخل الملعب وخارجه وكان رمزا من رموز حي الشاطىء(فريق وراء ) والمريخ والعيلفون وعلى المستويات كافة .
حكاية لعبه في موردة العيلفون أفادني مصدر رفيع من أهل المريخ بان الكابتن بخيت لم يلعب بتاتا في نادي الموردة مع عدم استبعاد أن تكون هناك تحركات من قبل الموردة للفوز بخدمات  النجم الكبير ولكن الحقيقة الثابتة أن الكابتن بخيت لعب أولا لديم سلمان ثم ألحقه الباشمهندس الراحل السيد محمد السيد  بكتيبة المريخ ؛فقبل نشأة اتحاد العيلفون الفرعي لكرة القدم (74/73 ) لم تكن هناك قيود تحد من حركة اللاعبين وانتمائهم ﻷي نادي وفي ذات يوم المباراة وعلى هذا المنوال كسر الكثيرون  من لاعبي العيلفون هذه القيود المتوارثة  باللعب ﻷندية الحي دون سواه  …  فاروق الصديق والنوراني الطريفي وصديق سراج النور وكوريا من الوفاق  إلى الموردة ثم عاد كوريا والنوراني مجددا إلى الوفاق وهاجرالطيب الطريفي والجيلاني عبد القادر من الوفاف إلى المريخ وهاجر المرحوم محمد صديق النص والسيد الطيب الجعلي من المريخ إلى الموردة وتدمير ممنهج وتشليع لوحدة (حروق )   – رحمه الله  –  بهجرة جماعية منظمة للاعبيها إلى المريخ والوفاق والموردة وهكذا الحال لدى المشجعين والمدربين … المرحوم حسن يوسف حاج علي اﻷقرب إلى المريخ إلى الموردة والمرحوم عثمان اﻷصم من الوفاق إلى الموردة …القاسم ابراهيم إدريس  وقمر الدولة عبد العزيز اﻷقرب إلى الوفاق إلى الموردة  والمرحوم عز الدين برجس وعبد الرحيم الشيخ إدريس يابا ( الليق ) من الموردة إلى الوفاق وانقسم ابناء عمنا المرحوم الطيب عبد العزيز بين الموردة  والمريخ وهكذا و في هذا الإطار ربما حدثت مناورات من الكابتن بخيت للعب في هذا الفريق  أو ذاك ( مجرد زعلة عابرة فالرجل بلغ عندهم من المكانة  ما بلغ ولعله نوع من التمرد الحميد ﻷنه لم يجد عندهم التدليل المناسب كحال اللاعبين الكبار في ذلك الوقت ) خلاصة اﻷمر أن الكابتن بخيت ارتبط ارتباطا وثيقا  بمجتمع المريخ  وعاش فيه أزهى  أيام حياته إلى ان اعتزل للعب وهو في قمة عطائه  .
يبدو لي ان أخصب الفترات التي مرت على مريخ العيلفون هي الفترة التي لعب فيها الكابتن بخيت وكان في عنفوان شبابه وقمة عطائه اواخر الستينات ومنتصف السبعينات وكان المريخ فيها منتصرا على الدوام في جميع مبارياته وحصد جميع  الكؤوس التي كانت تقام عليها المباريات بصورة أهلية غير رسمية وحتى وقت قريب كنت أشاهد وشاحات ومصفوفة كأسات المريخ تزين رفوف  النادي  و(دواليبه) ولكل واحد منها حكاية وتاريخ ومناسبة ولكن  -للأسف الشديد – أخطرني احد إداريي المريخ بأن  اغلب هذه الكأسات قد فقدت بسبب اﻹهمال الذي ساد أروقة النادي في فترة من الفترات …هذه الفترة الزاهية من فترات المريخ  يمكن أن نسميها( عصر بخيت) وهي الفترة التي رسخت في أذهان الكثيرين من جماهير المريخ في تلك الفترة بأن المريخ الفريق الذي لا يهزم …اغلب أبناء ذلك الجيل لا يرضون غير النصر والتعادل في عرفهم يعد هزيمة وهذا ما جعل المباريات التي لا يكون فيها المريخ في يومه غالبا ما تنتهي المباراة بمشكلة او اجتياح الجماهير للملعب… يبدأها أحد اﻷقطاب ثم تتبعه البقية من الجماهير الثائرة الغاضبة …اليوم زال هذا الاعتقاد الذي صنعه بخيت ولكن لا يزال يعشعش في أذهان  بعض من بقي على قيد الحياة  من شيوخ وأقطاب وشباب المريخ في ذلك الزمان ثم لا يلبث أن يعاودهم الحنين ويدغدغ مشاعرهم  و(يتاورهم) بين حين وآخر ؛ بيد أن هذا الاعتقاد القديم قد زال بالفعل بهبوط الفريق إلى الدرجة الثانية ثم عاد مجددا إلى موقعه الطبيعي بالدرجة اﻷولى و تلاشت نظرية المريخ الفريق الذي لا يقهر تماما  عندما بات يتلقى الهزائم بصورة عادية من أصغر الفرق  مثله مثل الفرق اﻷخرى وآخرها هزيمته النارية من نده اللدود الوفاق  وبلغت ثلاثة اهداف ملعوبة بفن ومهارة  في آخر مباراة دورية جمعت بين الفريقين على أرضية  إستاد العيلفون وأضوائه الكاشفة وتقبل مشجعوه الهزيمة الثقيلة بأريحية ورحابة صدر ما يوحي بان ذلك الاعتقاد القديم قد راح في ذمة التاريخ إلا ان صديقي العزيز( معتصم البيجو) همس في أذني عشية المباراة  بان كأس الدوري لديهم أصبح ماسخا غير ذي قيمة ولا لون له ولا طعم أو رائحة طالما ليس فيه هزيمة الوفاق !!.
على المستوى الشخصي كنت من أكثر المعجبين بالكابتن بخيت وامتدت العلاقة بيننا إلى علاقة صداقة ومودة ومحبة إلى آخر أيام في حياته وفي أيام مرضه اﻷخيرة ،فالكابتن بخيت رغم شراسته في الملعب كان شخصا ودودا لطيفا بسيطا يحمل قلب طفل بريء وكل الذين عاشروه في أرض الغربة يعرفون عنه هذه الخصال النبيلة ولعل ما أكتبه هنا ليس توثيقا بالمعنى الحقيقي للكابتن بخيت يغطي كل جوانب حياته إنما مجرد خواطر تحولت إلى أشواق وأمنيات ورغبة جياشة للكتابة عنه أوحت لي أن كابتن بخيت يستحقها من واقع معايشتي له في فترة من الفترات ولعل أقرانه الذين زاملوه في سني الدراسة الباكرة وعايشو طفولته المتمردة المغامرة او اللاعبين الذين زاملوه في فرقة المريخ يعرفون الكثير من الجوانب والتفاصيل وكلها تصب في خانة التميز والتفرد وتدعم  ما سقته من حديث … لاعب بهذه المواصفات وهذه البصمة الواضحة التي وضعها في مجتمع المريخ لو كنت في مقام أهله أو إداراته المتعاقبة لنحت مجسما للكابتن بخيت على ذات نهج اﻷهلي القاهري مع لاعبه الخطيب و بالعدم لوحة مضيئة في مكان بارز في ردهات النادي …بروفايل يوضح المعلومات اﻷساسية عنه بما فيها عدد اﻷهداف التي أحرزها في مشواره مع المريخ ( يا ترى كم عدد اﻷهداف التي أحرزها بخيت في شباك الخصوم ؟!! ) لعلها ترد بعض الوفاء لهذا اللاعب اﻷسطوري ولتعرف الأجيال القادمة عظمة ما قدمه للمريخ، فالكابتن بخيت لم يكن لاعبا عاديا بل هو فلتة من فلتات ذلك الزمان.
واخيرا :
رحل بخيت بعد كل هذا العطاء وهذا اﻷلق … رحل في صمت  ودون ضوضاء أو كرنفالات وسرادق عزاء والموت سبيل اﻷولين واﻵخرين وهذا هو المصير الذي ينتظرنا جميعا … يموت اﻹنسان وتنطوي صفحات كتابه في الحياة مهما علا أو قل شأنها ولن تبق منه غير  كلمتين على  شاهد في حافة القبر  نقشت  عليه باﻷحرف اﻷولى …الدعاء لي واذكروني بخير كلما مررتم من هنا !!.

كابتن بخيت غشيت قبرك شآبيب رحمته .
بخيت طبت حيا وميتا ..!!

اترك رد