الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل
بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)
كثيرٌ من المهن التى يحتاجها الناس بالقرية كانت مُتوفرة و تكفى الناس مشقة السفر للمسلمية أو مدني للبحث عن مَنْ يؤديها ولم تكن بالمهن المُعقدة بقدر ماهى حرفية فى المقام الأول وتحتاج لمهارة يدوية عالية تحت سقف المواد البسيطة المُتوفرة ، مُتطلبات الناس لا تتجاوز بناء بيوت الجالوص و الرواكيب والزرائب وترميم البيوت بما عرف لدينا (بجلط الزبالة) وعادة تكون قُبيل الخريف ويؤتى لها بمَنْ يُتقنُها وتبدأ بجمع روث البهائم (الزبالة) من الزرائب وما كان الناسُ يُبيعونها مُطلقاً فيُخلط معها (قشّ) القمح والماء وتُترك لأيام حتى تتخمّر ويبدأ الأسطي بجلط البيت من الخارج بالمحّارة كما الأسمنت و تُرمّم حواف السقف بزيادتها فتبدو البيوت وكأنها قد إستطالت و تُنظف السباليق أى بما يشبه الصيانة الخارجية ، يومها لم تكن بُيوُت الطوب الأحمر إلا نذراً يسيراً بالعيكورة لدى الميسُورين ويُقال أن أول بيت طُوب أحمر كان للمبارك ود حاج فضل الله بنته إبنته البكر وأول مُعلمة بالقرية الاستاذة (حامده) رحمه الله عليها وعلى أبيها ولكن من المؤكد لن يَعجَز أحدٌ من إحصاء بُيُوت الطُوب الأحمر أوائل السبعينيات وكان التركيز على الدواوين أنا لا أذكر أني رأيت ديوان من الطين اللبن فكانوا يبنونها بالطوب الاحمر بنظام الأقواس والصالات الواسعة .
الذين عاصرناهُم فى خريف العمر وكانوا صُناع مُهرة صالح ود حاج أمحُمد والد عباس (الجبرا) كانت له بصارة وخبرة في إنشاء الرواكيب ونجارة العناقريب وأظن أمحُمد (ود أمحد) صالح والد سعد الدين وأبوحديد أيضاً كان له خبرة فى الروكيب مع عمله كفراش بمدرسة البنات الابتدائية و ود خبير كان يعمل إسكافى على قدر الحاجة في الرتق والخياطة و المعالجة بمسامير (النقالة) والطيب ود أحمد والد أبراهيم (جن) كنا نُرسل اليه لتوسير وجلاد العناقريب و ود (بشنقر) كان له خبرة فى البناء ودراية بالطين اللبن وعبد الدائم ود عليان كان مُتخصصاً فى عمل الطوب الأخضر وقد جاء القرية بعد سنوات إغترابٍ طويلة قضاها فى الحبشة وقيل أنه حارب مع الطليان أو ضدهم لا أعلم ولكنه كان يُتقن لُغة الأحباش و الأيطاليين و كان هادئاً فارعُ القامة يمشي مَعقُوف اليدين من الخلف ، لم نُشاهد الأسطي المُحترف ذو الفرقة المُتكاملة إلاّ زمن (أمْحُمّد ود أمْحَدْ علي) ويُعدُ بيته من أوائل بُيوت الطوب الأحمر بالقرية ، عبد الله ود أمحُمد علي ود قرشي والد (أحمد جُوطُو) وأخوانه قيل أنه كان نجّار مراكب بارعٌ فى شبابه ولم يترُكها الا بعد أن أقعده ضعف النظر و مع ذلك ظلّت هوايتهُ المُفضّله و بحُكمِ أنه جدنا (خال الوالد) ونترددُ عليه كثيراً ليعيرنا (حماره) لدقيق العيش بالطاحونة فكان لا يُحب أن يُسلف دابته وفى كثير من الأحيان يصرفنا بقوله (الحُمار سادِربُو) أي يقصدُ أنه سيذهب به (للحوّاشه) ولو كان الوقتُ عصراً و كلمة (سَادِر) هذه كُنا نسمعُها كثيراً من أجدادنا ويقصدون بها ذهابهم الى الغيط ولا ندري كُنُهُها ، فكان جِدُنا هذا مُولعاً بصناعة قوائم العناقريب ومقابض الكواريق والطواري وكانت زوجته الحاجة خادم الحي بت ابراهيم تُعانى ثِقلٌ في السمع ولكنها تفهم طلباته بذكاء خارق و تعرف ماذا يُريد هل المِنشارُ أم المُبْرَد الناعمُ أو الخَشِنُ ، القدوُم أم المنشار من حركة كفّهِ فقط .
الزَيّ السائد كان عراريق الدمُورية ثم إرتقت الى الدبلان مع الطواقى وكانوا يشترونها من الاسواق الاسبوعية وما كانت تُصنع إلاّ يدوياً ولها فخامة وقيمة لديهم و العراريق ما كانوا يخيطونها طويله فبالكاد تتجاوز الرُكبة والسروال لا يبعد عنها كثيراً مع الطاقية فهذا زيُهُم داخل القرية أما إذا صَدَح (بُورى) لوري (قرّاضْ) ورأيتُهُم يلبسون جلاليب البوبلين الناصع وقد إلتحفوا شلات الصوف المصرية ولفّواالعُمامات ولبِسُوا مراكيبهُم (قطع الجنينة) فأعلم أن المُهمة خارجية سواءاً كانت زواج أو مأتم أو زيارة مريض بالمستشفى .
(ود مُوتُو) كان رجلاً طويلاً نحيفاً ينتعلُ (الشقيانة) ويلبسُ (العرّاقى) القصير وجدناه يسْكُن وحيداً فى غرفة مُشَغِل وابور المياه و لعله كان الشخص الوحيد بالقرية الذى (يفتل) حُبال السّعَفَ تقريباً يشتري (الحنقُوق) من النساء و(الحنقُوق) هو طرفي السّعَفَة يكُونُ قاسياً لا يُمكنُ ضفرُة فيُستخدم فى صناعة (المقاشيش) أو يُباع لود مُوتُو يُطوعُهُ بالماء والتخمير والخبَطَ بالعُود فى غيرِ ما قُسوةٍ حتي يلينُ ويفتلهُ حِبالاً كان يمُدُها بين بيت فضل الله ود أبسكين و بيت منصور ود أبوعلامة وكُنّا نراهُ فى العصريات مُثبتاً طرفاً من الحبل على الأرضِ والطرف الآخر يُمرره عبر عصاً مثقُوبةٍ بطول ذراع تقريباً وأخري قصيرة مُتعامده عليها يُحركُها فى حركة أفقية كمن يبرم (المنفلة) ويظل يمشي بخطوات بطيئة كلما قصُر الحبل جراء البرم حتى يتوقف الانكماش فيغرزهُ بوِتدٍ علي الأرضِ حتى الصباح ليجف ببرودة الليل. كان (ود مُوتُو) أيضاً مِنْ مَنْ يمتهنون مهنة (جلط) البيوت بالزبالة وينوب عن عباس ود الطيب في تشغيل وايقاف وابور المياه فى حال تأخره أو سفره خارج القرية .
جدنا صالح ود (حاج أمْحُمّد) كان قصيراً يطرق ببصره ناحية الأرض في مشيته يحمل القدوم والشاكوش منحنياً عاكفاً يديه خلفه لا يميل للمزاح ولا يخلو من طُرفة وسُخرية إذا أجبرته الظروف . قيل ذات مرة أنه كان ماشياً بجوار دكان أحمد ود خوجلى وكان بابكر احمد خوجلي جالساً على عتبة الدٌكّان و لعلهُ أراد أن يُمازحة فقال له (ماشي وين يا جدي صالح بشاكوشك ده) فقال له (ماشي أفك لى زنكي) وكان بابكر هذا قد تم سجنه بحلفا الجديدة أثر (مقلب) إذ إستأجره رجل أن يخلع له الواح (زنكي) إتضح أنه لا يملكها فتم إيداعه الحراسة لعدة أيام حتى ثبتت براءته .
الجمعة ١٩/ يونيو ٢٠٢٠م
The post السودان: العيكورة يكتب: حُبال ود مُوتُو appeared first on الانتباهة أون لاين.