اخبار السودان اليوم

السودان: العيكورة يكتب: مكّاوي إبراهيم مُوسي … مَوْتُ البشاشّة

وكأنى به وهو يُزفُ الى قبره يُمازحُ الناس ويُضاحكهُم بل وأتخيل أنه يُشاركهم الحفر والمعاول التى كثيراً ما كان يتحزّم ويتقدم الناس بها عند حفرالقبور بالقرية ، مكاوي كان أخ وصديق للكبار والصغار بلا مُنازع فإذا سمعت قهقهة بائعى الخُضار بالجزارة صباحاً فأعلم أن ورائها مكاوي وإذا سمعت خالاتنا و قد علا صوتهن ضاحكات بجوار المدرسة يبعن الطعمية والتسالى والدوم فأعلم بأن مكاوي يمُرُ من هُناك وإذا علا صوت الشباب ضاحكين فى مناسبة عُرسٍ فأعلم أن من يجلس بوسطهم ويشعُ النكته والطُرفة هو مكاوي وإذا تبسم كبارنا فى وقار فأعلم أن مصدر بسمتهم هو مكاوي ، وإذا سمعت أول صرخة وعَبرة وبكاء في عزاء فأعلم أنه صوتُ مكاوي كان حنيناً قريبُ الدمع .
الحُدُود التى إختارها الرجل الأسمر منذ أن كان يافعاً لم تتجاوز النيلُ شرقاً والحواشاتُ غرباً وشمالاً القوز وحلّة الشيخ طه البطحاني حيثُ المقابر وجنوباً قرية ود بلاّل إختار الفتى كل حياته مُلتصقاً بالأرضِ لم يُغادر (العيكورة) إلا بما قد تُمليه الواجبات الإجتماعية ثم العودة مع مغيبُ الشمس ، كان ساعداً لوالده الفكي إبراهيم موسي فى (غفارة) المدرسة الإبتدائية منذ أواخر الستينيات و لسنين طويلة تعاقبت عليه أجيال الدارسين بالمدرسة ، أذكُر كان يأتينا ليلاً بعد إنتهاء المُذاكرة لإغلاق الفصول وإطفاء (الرتائن) وكان به صحة وقوة ونُكته حاضرة ، وكان ينوب عن والده صباحاً فى حال مرضه . له ورشة حدادة صغيرة داخل حوش الأسرة تدُرعليه ما يقوت به عياله وأمه الحاجة خادم الله بت بلال صبرها الله وربط على قلبها فقد كان لها كلّ الحياة بعد أن أنهكهُما المرض سوياً فكانا يتقاسمان التشبث بأمل الحياة والضحكة المحزُونة . كانت ورشة مكاوي بتواضعها تسد الحاجة من صناعة الأبواب وحتى لحام كانون الطبخ لنساء الفريق ويرضى بالساهلة فإن أعُطي أخذ شاكراً وإن لم يُعطى فلا يسأل . أضافت له مسؤليه تعهد وتشغيل صهريج القرية القديم بعضاً من الرزق الحلال فكان الحالُ يمشى بين سددوا وقاربوا فتستمرُ حياة الرجل بين الشظف والشظف تجد القناعة والرضي . مكاوي لم يكُن بروفيسور ولا طبيب حتى تنعيه صفحات الإعلام بل هو من بُسطاء القوم هنداماً ولغة وطعاماً لا يُفتقد فى فرحٍ ولا كرهٍ ويجامل كما الآخرين بما تيسر . كان من جُلساء الوالد رحمة الله عليه الذين يدخلون البسمة والفرحة على نفسه وكثيراً ما يطلبه ولا أنسى صيغة المُرسال المُعتادة (أمش نادى مكاوي) لإصلاح الراكوبة أو تكسير حطب وكُنا في صغرنا نبتهج لدخوله البيت رغماً أننا كنا لا نفهم كثيراً مما يقُول فقد كان خفيف مخارج الحُرُوفِ بلهجة مُتتابعة لا تخلو من التكرار يصعبُ على من هُم فى سننا فهمها ، و بحُكم الجيرة لا أظن أننى لم ألتقيه فى أياً من إجازاتى وكان هو كثير السؤال عنّا وكُنّا نبادله الود بالحُب والبر والضحك وأتحدى أن يأتينى من أهل القرية كلها من يقول أن مكاوي قد أغضبه يوماً ما . وإن أنسى فلن أنسى لحظة كان يُعانقُنى باكياً يوم وفاة والدنا رحمة الله عليه وعلى مكاوى فقد كان سمحاً بسيطاً طيباً رقيقاً حباهُ الله محبة الناس ومحلّ إستبشار لمن يدخل عليهم يلقي الطرفة وهو ماشٍ لا يكثرُ الجلُوس حاضر البديهة لا ينتظرك أن تجيبه علي سؤال ولا ينتظر تعليقك ذهب كنسمة تهب الناس الارتياح ثم تمضي وقد مضي مكاوي الي رحاب ربه ليلة البارحة ضاحكاً كما عاش ضاحكاً .
اللهُم إن عبدك وحبيبنا وجارنا مكاوي إبراهيم موسي فى رحابك وهو الفقير الي رحمتك وأنت الغنيُ عن عذابه اللهم فأكرم نُزُله و وسع مُدخلة وأغسله اللهُم بالماء والثلج والبرد اللهُم وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وأدخله اللهُم الجنة بغير حساب . إنا لله وإنّا إليه راجعون .

بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)

The post السودان: العيكورة يكتب: مكّاوي إبراهيم مُوسي … مَوْتُ البشاشّة appeared first on الانتباهة أون لاين.

Exit mobile version