إلى الشمال من مدينة شيكاغو الأمريكية تقع مقبرة غريسلاند (Graceland Cemetery ) التي تتميز بأضرحة فخمة وتماثيل بديعة يعود تاريخ معظمها إلى الحقبة الفيكتورية ، أي أواسط القرن التاسع عشر . سكان تلك المقبرة القديمة ماتوا منذ أمد طويل ومات معهم كل من كان يعرفهم وكل من كان يتجشم عناء زيارتهم ، ولولا الأسماء على شواهد القبور لمحي ذكر الراقدين في تلك البقعة إلى الأبد . هذا هو حال الدنيا فكم من عزيز وغالي فارق الحياة فملأ أحبابه الدنيا بكاءا وعويلا ، ثم دار الزمان ، فمات النائحون وهلك المعزون ولم يبق في النهاية سوى قبر متهالك مهجور لا تزوره سوى هوام الأرض وشوارد الطيور .
لكن من حسن حظ الموتى في غريسلاند هو أنهم لا يعدمون الزائرين أبدا ، رغم رحيلهم عن هذه الدنيا منذ زمن بعيد ، فالناس تأتي للمقبرة باستمرار ولأسباب شتى ، هناك من يأتي بحثا عن قبور أجداده . وهناك من يأتي لأنه يهوى قراءة شواهد القبور والتعرف على أسماء ساكنيها ، خصوصا حين نعلم بأن العديد من أولئك الموتى كانوا من مشاهير وأعلام عصرهم كالفنانين والساسة والقادة والكتاب والعلماء . وهناك من يأتي للتمعن في النصب والتماثيل الرائعة التي تزين أرجاء المقبرة والتي تجسد في معظمها قسوة الموت ولوعة الفراق .
ولاشك في أن معظم أولئك الزائرين توقفوا قليلا عند تمثال صغير يعلو شاهد أحد القبور القديمة ، فهذا التمثال يثير الاستغراب لكونه أبعد ما يكون في موضوعه عن كآبة الموت وأحزان الوادع الأبدي ، حتى أن من يراه للوهلة الأولى يظن بأنهم ربما أخطئوا حينما نصبوه في هذا المكان الموحش ، فهو يليق بساحة عامة أو مدخل متحف أو مسرح .
التمثال عبارة عن طفلة جميلة ترتدي ملابس قديمة الطراز وتجلس فوق كرسي على هيئة جذوع وأغصان الأشجار ، شعر الفتاة ينساب وراء ظهرها ، وعلى كتفها تتدلى قبعة جميلة ، وتمسك بيدها مظلة مطوية بعناية ، وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة لطيفة باهتة أشبه ما تكون بمزيج عجيب ما بين روح ومرح الطفولة وشحوب وبرودة الموت . والتمثال بأسره موضوع داخل صندوق زجاجي أنيق لحفظه من عوامل الجو .
الكثيرين ممن رأوا ذلك التمثال شعروا بالأسى والحزن من اجل الطفلة الجميلة التي فارقت الحياة بعمر الورود ، العديد منهم دأب على وضع الزهور والهدايا فوق شاهد القبر والألم يعتصر قلوبهم بسبب قصتها المأساوية . فهذه الطفلة الرقيقة تدعى انيز كلارك ، كانت في السادسة من عمرها حين ماتت ، حدث ذلك في ذات يوم من صيف عام 1880 ، في ذلك اليوم المنحوس خرجت إنيز للتنزه في الحديقة العامة برفقة والديها . كان الجو جميلا وصحوا في ذلك اليوم ، أفترش والدا إنيز العشب الأخضر فيما راحت هي تلعب وتمرح على مقربة منهما . وفجأة .. من دون سابق إنذار .. تغير الطقس بسرعة ، هبت عاصفة رعدية عنيفة وزمجرت السماء مرسلة صواعقها المدمرة نحو الأرض ، ولسوء الحظ أصابت إحدى تلك الصواعق فتاتنا الجميلة إنيز فصرعتها في الحال وتركتها جثة هامدة أمام أنظار والديها
هناك نسخة أخرى للقصة تزعم بأن إنيز لم تمت في الحديقة العامة وإنما ضربتها الصاعقة في حديقة منزلها ، حيث يبدو بأنها خرجت من المنزل فأغلق الباب دونها ولم تستطع العودة للداخل عندما هبت العاصفة ، ويقال بأن والدتها هي التي أخرجتها إلى الحديقة وأغلقت الباب دونها لمعاقبتها على أمر ما .
أيا ما كانت القصة الصحيحة فأن مصيبة والدا إينز كانت عظيمة وحزنهما عميقا ، فلا يوجد في الدنيا موقف أمر وأتعس من أن يرى الأب والأم موت أحد أطفالهم أمام أعينهم . خصوصا عندما يكون ذلك الطفل هو طفلهم الوحيد كما هو الحال مع إينز . ولهذا السبب قرر والد أنيز بحسب موقع كابوس أن يقيم لها نصبا يخلد ذكرها للأبد ، فعهد لأحد أشهر نحاتي ذلك الزمان بمهمة نحت تمثال يكون آية من آيات الروعة والجمال . وبالفعل تم نحت التمثال وقاموا بوضعه فوق قبر الطفلة المسكينة .
لكن القصة لا تنتهي هنا ..
فبعد سنوات على موت الفتاة ، في ليلة عاصفة وماطرة ، كان أحد الحراس يقوم بجولته الروتينية داخل المقبرة ، ومن حين لآخر كان البرق يلمع في السماء فينير بضوئه الساطع ظلام المقبرة ، وحين مر الحارس بالقرب من قبر إنيز لمع البرق مجددا فأنتبه الحارس لصندوق الزجاج الذي يعلو قبر الفتاة ، ولشدة دهشته كان الصندوق فارغا .
أقترب الحارس من الصندوق الزجاجي ، تسارعت أنفاسه ونبضاته ، صوب مصباحه اليدوي نحو الصندوق الزجاجي .. يا الهي .. نعم .. الفتاة ليست في مكانها ! .. تمتم الحارس مع نفسه وهو يحدق مذهولا نحو الكرسي الذي كانت تستريح فوقه إنيز ، كان الكرسي فارغا والفتاة غير موجودة ! .
كيف يعقل ذلك ؟ .. تساءل الحارس مع نفسه وهو يتلفت حوله بحثا عن التمثال .. ثم لمع البرق مرة أخرى ليضيء المقبرة للحظات قصيرة أخرى شاهد الحارس خلالها تمثال الفتاة وهو يركض مذعورا بين القبور ! .
أحس الحارس في تلك اللحظة بأن قلبه يكاد يتوقف من الرعب ، أراد الهرب لكن قدماه لم تقويا على حمله ، ولمع البرق مجددا ، هذه المرة شاهد التمثال وهو يقف أمامه مباشرة وقد ارتسمت على وجه الفتاة نظرة رعب لا تقل عن الرعب الذي هو فيه .
كانت صدمة هذا المنظر كفيلة بإطلاق دفق هائل من الأدرينالين في عروق الحارس فصرخ صرخة مدوية اهتزت لها أرجاء المقبرة وكادت أن توقظ الموتى في قبورهم ثم أطلق رجليه للريح لا يلوي على شيء ولا يوقفه شيء رغم الظلام وتخبطه وسقوطه المتكرر فوق القبور ..
ظل يركض .. ويركض .. حتى وصل إلى مخفر الشرطة في المدينة وهو يصرخ طلبا للنجدة ..
الضابط المناوب في تلك الليلة ظن بأن الرجل أصابته لوثة عقلية ، ومع هذا فقد أرسل شرطيين معه إلى المقبرة ليتأكدوا من أقواله ، ولشدة دهشة الحارس كان التمثال جالسا مكانه داخل الصندوق الزجاجي كأن شيئا لم يكن الحارس المسكين ترك العمل في المقبرة بعد ذلك الموقف وأقسم أن لا تطأ قدمه أرضها ما بقي حيا ، ويقال بأنه من شدة رعبه أنتقل للعيش في مدينة أخرى . ومنذ ذلك الحين انتشرت الأساطير والحكايات حول تمثال الفتاة ، أشهر تلك الحكايات تقول بأن إنيز تترك صندوقها الزجاجي وتفر هاربة كلما هبت عاصفة رعدية وذلك بسبب خوفها الشديد من البرق .. كيف لا وهي ماتت مصعوقة . وقد زعم العديد من الأشخاص على مر السنين بأنهم شاهدوا تمثال الفتاة يركض ويعدو بين القبور كلما لمع البرق في السماء ! .
الصمت الأبدي
هناك تمثال آخر في مقبرة غريسلاند لا يقل شهرة عن تمثال الفتاة إنيز وتدور حوله أيضا الكثير من القصص والخرافات . لكن ما يميز هذا التمثال عن تمثال الفتاة هو شكله الكئيب والمخيف ، كيف لا وهو يجسد رهبة الموت وغموضه حتى أسمه مرعب .. الصمت الأبدي
التمثال منحوت في عام 1909 على يد النحات الشهير لورادو تافت ، وهو ينتصب عند قبر رجل أعمال شهير عاش في القرن التاسع عشر ويدعى دكستر غرافيز .
التمثال كان مطليا باللون الأسود بالكامل ، لكن مرور الزمان والعوامل الجوية أدت إلى تآكل وصدأ المعدن المصنوع منه التمثال وتحوله إلى اللون الأخضر ، باستثناء الوجه المخفي بعناية تحت العباءة حيث بقى محافظا على لونه الأصلي .
الأسطورة تقول بأن كل من يحدق إلى وجه التمثال ويركز النظر جيدا نحو العينين فأن هناك احتمالا كبيرا في أن يرى بعين الخيال لحظة موته وهيئة احتضاره .. لذا أرجوا أن لا تطيل النظر كثيرا عزيزي القارئ إلى وجه التمثال خشية أن ترى أين وكيف ستموت ، وهو أمر كفيل بتكدير حياتك وإثارة فزعك خصوصا إذا كانت – لا سامح الله – ميتة مؤلمة وقاسية وغريبة .
الصورة الملعونة
هناك أطفال يتميزون بغرابة الأطوار وهذا ينطبق تماما على سوزان وشقيقها جون اللذان كانا يعيشان مع أمهما الأرملة في منزل متواضع في ضواحي إحدى المدن الأمريكية . كانت والدتهما السيدة باكلي امرأة معروفة بطيبتها ودماثة أخلاقها ، ولهذا كانت محبوبة من قبل الجميع ، لكن ذلك للأسف لم يكن ينطبق على طفليها ، إذ كانت سوزان تتصرف دائما بلؤم وخبث مع صديقاتها ، أما جون فكان ميالا للعنف والمشاكل ،
ولولا حب أهل الحي للسيدة باكلي لما سمحوا لأطفالهم باللعب مع سوزان وجون لأنهما كانا طفلين شريرين حقا ، وكان هناك لغط يدور على ألسنة سكان الحي فيما يتعلق بنسبهما وأصلهما ، فالجيران لم يروا أبدا زوج السيدة باكلي ، كانت قد سكنت الحي قبل عدة سنوات ، وحين كان الناس يسألونها عن زوجها كانت تخبرهم بأنه كان جنديا قتل في أوربا خلال الحرب العالمية الأولى . لكن بعض سكان الحي لم يصدقوا هذه القصة ، وسرت إشاعة مفادها أن زوج السيدة باكلي كان سفاحا خطيرا أقدم على قتل الكثير من الأبرياء والتمثيل بجثثهم ، وقد تم إلقاء القبض عليه متلبسا بإحدى جرائمه المروعة فقام السكان الغاضبون بشنقه على أقرب شجرة ، مما دفع زوجته السيدة باكلي إلى الهرب مع طفليها خوفا من انتقام الناس .
لا أحد يعلم على وجه اليقين صحة هذه الإشاعة ، لكن الكثيرين رأوا فيها تفسيرا لغرابة أطوار سوزان وجون باعتبار أن دماء القتل والإجرام تجري في عروقهما .
وفي ذات يوم من شهر أكتوبر عام 1919 اجتمعت سوزان وشقيقها جون مع أطفال الحي ممن يعيشون في المنازل المجاورة ليقرروا نوع التقليعة التي سيتميزون بها خلال عيد الهالوين القادم . إذ جرت العادة كل عام أن يرتدوا زيا مرعبا موحدا ثم يدوروا خلال ليلة الهالوين على أبواب الحي ليجمعوا ما يجود به عليهم الجيران من حلويات ومكسرات . وجرى الاتفاق في ذلك العام على أن يتقمصوا شخصية السفاح فيحمل كل منهم فأسا ورأسا مقطوعا هو عبارة عن رأس دمية .
لكن سوزان وجون صمما على أن يكونا الأكثر تميزا من بين جميع أطفال الحي في تقمصهما لشخصية السفاح ، ولهذا قررا بأن يستعيضا عن رأس الدمية برأس إنسان حقيقي ، وهذا الإنسان لم يكن سوى أمهما المسكينة ! .
أخيرا حين حلت ليلة الهاولين واجتمع الأطفال وهم يرفلون بأزيائهم المبهرجة والمخيفة ، لم يكن أيا من سوزان وجون بين الحاضرين ، وهو ما أثار تعجب الجميع لأنهما كانا الأكثر حماسا للمناسبة . ولهذا ذهب الأطفال ليسألوا عنهما ، طرقوا باب منزل السيدة باكلي كثيرا ، لكن من دون أن يحصلوا على رد ، فقرروا أن يدوروا حول المنزل ويدخلوا عبر الحديقة الخلفية .. وليتهم لم يفعلوا .. ففي الحديقة الخلفية كانت تنتظرهم مفاجئة رهيبة جعلت الدم يتجمد في عروقهم ، فالسيدة باكلي كانت تجلس بهدوء على كرسي في الحديقة وهي مقطوعة الرأس ! .. شخص ما نحرها كالخروف وطار برأسها .
وسرعان ما أرتفع صراخ الأطفال بعد مشاهدتهم لهذا المنظر المرعب ففروا إلى منازلهم وهم ينشجون بالبكاء ، وركض أبائهم إلى حديقة السيدة باكلي ليتأكدوا من حقيقة ما يرويه أطفالهم ، ولشدة دهشتهم كانت السيدة باكلي تجلس فعلا على كرسي في حديقتها وهي منحورة من الوريد إلى الوريد ، ولقد عثروا في حضنها على صورة فوتوغرافية لا أحد يعلم من ألتقطها ، تظهر فيها سوزان وهي تقف بجوار جثة أمها وهي تحمل بيدها فأسا فيما يقف شقيقها جون على الجانب الآخر وهو يحمل رأس أمه
كان الأمر واضحا ، لقد قاما بقتل أمهما من اجل أن يتميزا على بقية الأطفال في ليلة عيد الهالوين ! .. ثم هربا إلى جهة مجهولة .
لقد شكلت هذه الجريمة المروعة صدمة كبيرة للناس في ذلك الزمان ودارت حولها الكثير من التساؤلات ؟ ..
كيف قاما بذبح أمهما ؟ .. من التقط لهما الصورة الفوتوغرافية ؟ .. أين هربا وما هو مصيرهما ؟ .. كل هذه الأسئلة ظلت من دون إجابة حتى يومنا هذا ، فالشرطة لم تعثر عليهما أبدا ..
لكن القصة لا تنتهي هنا .. فبعد مرور سنوات طويلة على تلك الحادثة الأليمة انتشرت إشاعة بين الناس مفادها أن سوزان وجون قتلا على يد الهنود الحمر بينما كانا هاربين من الشرطة ، وأن أرواحهما الشريرة مازالت تدور بين البلدات والمدن على نفس الهيئة المخيفة التي ظهرا فيها بالصورة ، سوزان تحمل الفأس وجون يحمل الرأس ، وهما يبحثان عن أولئك الذين قادهم حظهم العاثر لمشاهدة الصورة فيقوما بقتله ويستلا روحه من بدنه خلال نومه .