الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
تهافت الصَّادق في المعارضة
والصَّادق منذ استيلاء الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة على الحكومة في حزيران (يونيو) 1989م لم يكن مقتنعاً بالعمل العسكري، بل كان يؤكِّد تمسُّكه بنهج “الجهاد المدني” أسلوباً وحيداً لتغيير النِّظام، برغم من أنَّ النِّظام إيَّاه أصبح يردِّد بين عشيِّة وضحاها بأنَّه لا يدخل في تفاوض إلا مع الجهات التي تحمل السِّلاح. إذ ذكر الصَّادق – فيما ذكر – في مواجهة أجراها الأستاذ محمد البصيري وشاركه فيها الأستاذ شعبان عبد الرحمن لمجلَّة “المجتمع” – مجلَّة المسلمين في أنحاء العالم: “إنَّ المعارضة الشماليَّة نفسها لم تكن مقتنعة بحمل السِّلاح مثلى، ولم تقتنع إلا بعد 7 سنوات، وبرغم أنَّهم قرَّروا حمل السِّلاح كنت أقول لهم ما زال الأمل في الجهاد المدني موجوداً، ولذك فأنا غير موافق على هذا الأسلوب، ولكن كما قلت إنَّني وُضعت في موقف كان لا بدَّ أن أخوضه.”(9) ولعلَّ هذا الرَّفض من جانب الصَّادق تجاه العمل العسكري تارة، والتردُّد في القبول طوراً آخر، والموافقة على مضض تارة ثالثة هو ما يفسِّر رفضه علانيَّة وجهراً حين بات رئيساً لقوى نداء السُّودان، وأقنع الذين معه على متن السفينة على ذلك، وذلك لخدمة أهداف النِّظام “الإنقاذي” في الخرطوم.
لقد حدث تردُّد الصَّادق في النِّضال المسلَّح في بواكير العمل المعارض ضد النِّظام “الإنقاذي” في الحين الذي فيه كانت الأجواء مغيَّمة بما أسمَّوه أعراس توديع المتطوِّعين المتوجِّهين إلى “الجهاد في سبيل الله”، والفتاوي الجهاديَّة التي لم تبق ولم تذر مواطني جبال النُّوبة وغيرهم من المسلمين والمسيحيين ومعتنقي كريم المعتقدات الإفريقيَّة والنِّساء والأطفال والكهول وأهل عاهات، ثمَّ كانوا يحرقون مساجدهم ومصاحفهم ويقولون إنَّها لمساجد ومصاحف العبيد، وكأنَّ للنُّوبة مطابعهم يطبعون فيها مصاحفهم، ويحرِّفون الكلم عن مواضعه! وفوق ذلك، غيَّمت سماوات السُّودان الشعارات العدائيَّة، والخطابات الناريَّة التي كانت تتخلَّلها الهتافات “هبِّي هبِّي ريح الجنَّة.. جاهزين لحماية الدِّين”، والحديث عن القردة التي أخذت تدلُّ هؤلاء المجاهدين إلى مواقع الألغام، وترديد الأغاني الحماسيَّة، وذلك في استنفار للنَّاس بما أشبه بالمهديَّة حين كان شعارهم “الدِّين منصور”. والرِّيح ريح صرصر البارد حسبما جاء في تفسير ابن كثير دلالة من دلالات الشَّر والضر، كما ورد في الأيات الآتيات: “وأمَّا عاد فأُهلِكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية” (الحاقة: 69/6)؛ “فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيَّامٍ نحسات” (فصلت: 41/16)؛ “إنَّا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر” (القمر: 54/19) وغيرها من الآيات الآخرى. أو كما جاء في بيت الشعر المنسوب إلى عبدة بن الطَّبيب. وعبدة هذا كان رجلاً من أصول حبشيَّة، وهو الذي كان عبداً مملوكاً في شبه الجزيرة العربيَّة، وإمعاناً في إساءته سُمِّي بعبد، واستزادة في احتقاره أضافوا تاء التأنيث إلى اسمه ليمسي “عبدة”؛ فأي إساءة أكثر من هذه التي تثبت صفة العبوديَّة كاسم، وتتزيَّد بإضافة تاء التأنيث للرَّجل الفحل! ومع ذلك، تزوَّج عبدة، وأنجب البنون، وطفق يخاطب بناته منشداً:
وتركتُ في غبراء يُكره وردها
تسفي عليَّ الرِّيح ثم أودعُ
أمَّا الرِّياح فهي بشارة للخير والحياة، كما جاءت في الآيات البيِّنات التاليات: “وهو الذي يرسل الرِّياح بشراً بين رحمته” (الأعراف: 7/57)، “وأرسلنا الرِّياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه” (الحجر: 15/22)، “ومن يرسل الرِّياح بشراً بين يدي رحمته” (النمل: 27/63) وما شابه ذلك من الآيات. إذاً، ماذا يدلُّ ترديد بعض الشعارات إيَّاها من قبل الشباب الإسلامويين يومئذٍ؟
إنَّه ليعني أنَّ أولئك وهؤلاء المجاهدين قد أًشرئبُّوا بمفردات قرآنيَّة وباتوا يردِّدونها دون أن يعوا معانيها ومدلولاتها، ودون إعمال العقل أو التدبُّر في العناصر الأخرى التي تجمع النَّاس في التعايش والتساكن، وحقوق المواطنة المتساوية في البلد الواحد، حتى اختلط عليهم الحابل بالنابل، وتشابه البقر عليهم، ثمَّ أمسوا في حيرة من أمرهم. فلا مريَّة في أنَّ السُّودان من الموقِّعين على العهود والمعاهدات والمواثيق الدوليَّة، مع المنظَّمات الأمميَّة والهيئات العالميَّة، التي تفرض على موقِّعيها الالتزام الصارم بما ورد في بنودها من مواد في صيانه حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة والمساواة، ومكافحة التمييز بكل أنواعه، وحفظ كرامة الإنسان، غير أنَّ السُّودان لم يتقيَّد بهذه العهود والمعاهدات والمواثيق. أما عن القردة، التي أمست كاسحات ألغام في جنوب السُّودان فإنَّ لفي الحديث شجون! ولعلَّ الصينيين في حرب الأفيون في الفترة ما بين (1840-1842م)، والتي اشترك فيها الجنرال تشالز غوردون، كانوا قد استخدموا القردة أو بالأحرى فكَّروا في استخدام القردة في هذه الحرب، ولكن بصورة أذكى من آيات الله الإسلامويين في الخرطوم، وليست كما بدا لنا في الأسطورة الجدليَّة إيَّاها عندهم في العهد “الإنقاذي”. إذ كانت الخطة الصينيَّة تقتضي استغلال هذه القردة كأجهزة متفجِّرة مبتكرة، حيث كانوا ينوون ربط القرود بمواد متفجِّرة وإطلاقها على السُّفن الأجنبيَّة لتنفجر وتحدث خسائر ماديَّة وحيوانيَّة وبشريَّة وسط الجنود البريطانيين.
أيَّاً كان من شأن، ففي النصف الثاني من شهر آب (أغسطس) 1992م أطلق الصَّادق المهدي مبادرة للبحث عن مخرج سلمي لمشكلات السُّودان، بما فيها الحرب الأهليَّة في جنوب البلاد ووسطها، وذلك عن طريق عقد مؤتمر دستوري. بيد أنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان منذ تأسيسها العام 1983م هي التي أخذت تنادي بأنَّ معالجة قضايا السُّودان المحوريَّة ينبغي أن تأتي عبر انعقاد مؤتمر قومي دستوري تشارك فيه كل القوى السِّياسيَّة لمناقشة قضايا ملحَّة مطروحة كتحدِّيات، منها قضيَّة الدِّين والدولة والعلاقة بينهما، وهُويَّة السُّودان، ومعالجة نمط الحكم المناسب للسُّودان المتعدِّد مذهبيَّاً وعرقيَّاً، وذلك من خلال العمل بالنِّظام الدِّيمقراطي التعدُّدي العلماني. لذلك لم يأت ابن المهدي بشيء جديد، بل الجديد الذي جاء به هو أنَّه عطَّل ذلك المؤتمر الدستوري حين كان رئيساً للوزراء لمدة ثلاثة أعوام، ولكي يعود ليغرِّد به في المعارضة. على أيَّة حال، فبرغم من ذلك النِّداء تجاهله النِّظام، ثمَّ لم يعره انتباهاً، مما حدا بالصَّادق أن يطالب البشير بعد أسبوعين من إطلاق مبادرته المهملة في تصريحات صحافيَّة بتحديد المدرسة الإسلاميَّة التي ينتمي إليها: “أهو إسلام الصحوة أم إسلام الانفلات؟”(10) هذا، ولئن لم يبن لنا الصَّادق الفرق بينهما، إلا أنَّنا لم نر ماذا تفيد إسلاميَّة البشير في قضايا الوطن المحوريَّة، سواء أكانت إسلاميَّته صحويَّة أم انفلاتيَّة! وفي 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992م أبدى الصَّادق رغبته واستعداده في الدخول فيما أسمَّاه “حواراً قوميَّاً” مع نظام البشير “بهدف الوصول إلى حل ديمقراطي لأزمة البلاد”، وذلك برغم تجاهل البشير لمبادرته الأولى.
ومع إصرار النِّظام بأنَّه لا يفاوض إلا من يحمل السِّلاح ويشهره في وجهه، رفض الصَّادق المهدي مغادرة السُّودان في نيسان (أبريل) 1996م للالتحاق بفصائل التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي لخوض غمار العمل العسكري في المعارضة، وكان يحدوه الأمل في أنَّ المذكرة التي ستُقدَّم من قبل التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي بالداخل إلى الحكومة في 10 حزيران (يونيو) 1996م قد تؤدَّي إلى التغيير السلمي الذي راهن عليه، وخابت ظنونه في سلطة الترابي مجدَّداً.(11) فالأمل – من غير شك – يمكن أن يخدم فقط كمعيار لعجز الفكر عن تحقيق شيء ما، وبخاصة حينما لا يكون هذا الفكر المأمول مصحوباً بأدوات عمليَّة ووسائل ماديَّة. أما في حال إخفاق الأمل في إنجاز شيء – كثيراً كان أم قليلاً – فإنَّه ليغدو تأمُّلاً، وعندما يطول التأمُّل يصبح الأمر يأساً، وهذا هو ما وصل إليه الشَّعب السُّوداني الذي بدأ آملاً في التغيير السِّياسي باكراً في الأيَّام الأولى من نظام “الإنقاذ”، حتى لم يفلح في الأمر شيئاً في نهاية المطاف. وحين طال الانتظار، فإذا أمل السُّودانيين ينقلب إلى تأمُّل، ثمَّ إذا الأمر يصل بهم إلى حد اليأس.
مهما يكن من شيء، فما أن ظهر الصَّادق فجاءة في العاصمة الإريتريَّة، أسمرا، في عمليَّة أسمَّاها “تهتدون” في كانون الأول (ديسمبر) 1996م، حتى شرعت الأقلام تتبارى في تحليلات خروج سليل المهدي من السُّودان، وفي ذلك ليس رجماً بالغيب ولكن بناءً على مواقفه السَّالبة السَّابقة في المعارضة وفي الحكم على حدٍ سواء. إذ حاول “بعض وسائل الإعلام في الخرطوم تبريرها بالتلميح إلى “تراخٍ أمني متعمِّد” في جانب الأجهزة الأمنيَّة لأنَّ السيِّد الصَّادق بات يسبِّب إزعاجاً للحكومة من جرَّاء خطبه الناريَّة أيَّام الجمعة، وفي المناسبات الدِّينيَّة؛ لذا من الأفضل تركه يغادر السُّودان كي يتوجَّه إلى أسمرا ليهدم هيكل التجمُّع (الوطني الدِّيمقراطي) فوق رؤوس قياداته، فتكون السُّلطة في الخرطوم (قد) أصابت عصفورين بحجر واحد، كما قال عبد السَّلام فرح رئيس جهاز الحرس الخاص بالرئيس الأسبق جعفر محمد نميري لمجلَّة “المجلَّة” في لندن.”(12) ولعلَّ الحديث، الذي أخذ يروِّج له بعض الداوئر في الخرطوم عن نسف الصَّادق المهدي لهيكلة التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، كان مصداقاً لمعرفتنا بتأريخ الصَّادق السِّياسي الذي فيه ألف حكاية وحكاية. وإنَّ ما أقدم عليه الصَّادق لاحقاً يبقى خارج التطوُّر الطبيعي لأداء المعارضة، وهو بمثابة الانقلاب على الذات، ولكن لم يكن هذا بغريب عن الصَّادق. إذ كانت النتيجة الأوليَّة لهذا الخذلان المهدوي المبين هو إضعاف الحركة السِّياسيَّة الشماليَّة، وتكريس حكومة “الإنقاذ” في السُّلطة في الخرطوم كونها استندت إلى الحزب السِّياسي الوحيد الذي صان نفسه من عمليَّة التدمير الذاتي على الأقل في ذلك الرَّدح من الزمان، مما حدا بأحزاب الشمال أن توقع اتِّفاق القاهرة العام 2005م في غياب حزب الأمة، ولم تلتزم الحكومة في الخرطوم بصيانة بنود هذا الاتِّفاق وتطبيق شروطه حسبما جاء في الاتِّفاق. بيد أنَّ الثمن الأخطر كان هو انفصال الجنوب وزواله عن خريطة السُّودان القديم.
وبما أنَّ الصَّادق كان قد عاب على خطاب الحكومة “الإنقاذيَّة” الدَّيني في إعلانها الجِّهاد ضد الجنوبيين، إلا أنَّه عاد واستخدم نفس لغة الخطاب الدَّيني الصارخ في حق الجنوبيين، وكأنَّهم كانوا شيئاً آخر وليسوا جزءً من السُّودان، وهو نفس الخطاب الذي اعتاد أن يستخدمه صهره الترابي في مناسبة ودون مناسبة. إذاً، ماذا قال الصَّادق في أهل الجنوب، وأمسى ذلك القول يفوح باستعلاء ديني منبوذ حتى بات كأنَّه أحد الخلفاء الرَّاشدين الذي طفق يتحدَّث عن يهود بني قينقاع وبني قريظة أو يهود خيبر أو يثرب؟ على أيَّة حال، ذكر الصَّادق – فيما ذكر: “إنَّنا نعتبر الجنوبيين حقيقة أهل عهد وليسوا أهل ذمَّة، لأنَّنا لم نفتح الجنوب لكي نعتبرهم أهل ذمة ونقيم عليهم الإسلام على هذا الأساس، ولكن ما حدث أنَّه عام 1948م كان وارداً في ظل الإنجليز أن ينفصل الجنوب ويصبح دولة مستقلة، لكن الجنوبيين في ذلك الوقت اتفقوا فيما سُمِّي بمؤتمر جوبا العام 1947م على أن يظل السُّودان موحَّداً (الجنوب مع الشمال في قطر واحد) هذا هو بداية العهد. ثانياً: كان هناك قرار بريطاني-مصري بما سُمِّي “الاتِّفاقيَّة المصريَّة-البريطانيَّة” العام 1953م، هذه الاتفاقيَّة ضمن بنود تقرير المصير السُّوداني، اتفق الجنوب والشمال على العمل على استقلال السُّودان، وذلك هو بمثابة معاهدة بيننا وبينهم في إطار قطر واحد نعتبر أنَّ بيننا وبينهم هذا العهد.”(13)
وفي لقاء صحافي أجرته مجلَّة “الوسط” اللندنيَّة مع الصَّادق المهدي سُئل الصَّادق أنَّه “لا شك في أنَّ خلال السنوات الماضية وجدت فرصة للتأمل في الفترة الدِّيمقراطيَّة التي أجهضها انقلاب الجبهة (القوميَّة) الإسلاميَّة. فما هو الدَّرس الذي استخلصته على المستويين الشَّخصي والعام؟”(14) إذ ردَّ الصَّادق أنَّ الديمقراطيَّة بشكلها الليبرالي لن تنجح من دون أقلمة للظروف الحضاريَّة والاجتماعيَّة، وأسمَّى الصَّادق التجربة الممكن نجاحها في السُّودان ب”الدِّيمقراطيَّة التعاقديَّة”، وأشار إلى أنَّه كتب عنه في كتابه الذي أصدره بعنوان “الديمقراطيَّة في السُّودان: عائدة وراجحة”. فقد أسعفنا الوقت أن نقرأ ذلكم الكتاب ولم نجد بين دفتيه ما أشار إليه الصَّادق ب”الدِّيمقراطيَّة التعاقديَّة”. ولعلَّ ما ورد في الكتاب الذي جاء في ثلاثة عشر فصلاً هو الحديث عن الأوجه السِّياسيَّة والنقابيَّة والعسكريَّة والمسألة الاقتصاديَّة والتموين والمعيشة والفساد وقضايا قوميَّة ومشاركة دوليَّة وقوانين أيلول (سبتمبر) 1983م والقوانين البديلة وأجهزة الدولة والسَّلام والسِّياسة الخارجيَّة، وذلك كله في إطار المقارنة بين حكومته من جانب ونظام “الإنقاذ” من جانب آخر. إذ جاء التأليف إيَّاه كمحاولة فاشلة لتبرير عجز حكومته لإنجاز أي شيء في قضايا السَّلام بما فيه النِّزاع المسلَّح في دارفور وإلغاء قوانن أيلول (سبتمبر) 1983م واحتواء تجاوزات حقوق الإنسان.
ثم أدلف الصَّادق إلى الحديث عن الدَّرس الثَّاني وهو أنَّه أتضَّح له “أنَّ العوامل الدوليَّة والإقليميَّة في عالم تقارب بصورة جعلته أشبه بالقرية تجعل عامل الأمن والتنمية والاستقرار في أي بلد غير معزولة عن العالم الذي يحيط به، ولا بدَّ للقيادات السِّياسيَّة من أن تتدبَّر ما ينبغي أخذه في الحسبان بالنسبة إلى هذ العوامل، وهذا ما كتبته في كتاب سمَّيته “تحدِّيات التسعينات”.”(15) غير أنَّ هذه الإجابة تتعارض مع شعار الصَّادق الذي ظلَّ يزعم فيه بالنأي عن “تدويل المشكل السُّوداني”.
بيد أنَّ الدَّرس الثَّالث الذي ادَّعى الصَّادق بأنَّه تعلَّمه هو ما قاله بأنَّه صار “مقتنعاً تماماً بأنَّنا – نحن أهل الشمال – همَّشنا العناصر غير الإسلاميَّة وغير العربيَّة، بصرف النظر عن إحساس الكيانات الأخرى. وفي رأيي أنَّنا بذلك ارتكبنا غفلة كبيرة، ولم نأخذ ذلك في الحسبان، ولذلك هم بصورة أخرى حملوا السِّلاح لاستنكار هذا الموقف. وأنا من أوائل السُّودانيين الذين تنبَّهوا لهذه الحكاية، وأصدرت كتابي “مسألة جنوب السُّودان” العام 1964م. لكن هذا النوع من التفكير كان يعد انفصاليَّاً في ذلك الوقت. واعتقد بأنَّنا لا بدَّ أن نعترف بهذا التقصير، وبأنَّ هُويَّة ومصلحة العناصر غير الإسلاميَّة وغير العربيَّة لا نستطيع أن نحدِّدهما نحن، وإنَّما هم الذين يحدِّدونهما في شكل نتفق عليه سويَّاً، لكي نوفِّق بين ذاتيتنا وذاتيتهم. وأرى أنَّ هذا مشروع تفاهم أو هندسة حضاريَّة بشريَّة واجتماعيَّة وضروريَّة. هذه هي الخريطة الجديدة التي يمكننا أن نناقشها بالتفصيل معاً. وليس ممكناً أن نفترض استمرارها إلا بقرار سياسي جديد منهم، وهذا ما دعاني إلى كتابة ورقة تحدِّد هذه الأشياء وتقرِّرها، وسمَّيتها “مشروع السَّلام العادل” (…).”(16)
بُعيد عودته إلى الخرطوم اختار السيِّد الصَّادق المهدي أن يفتعل معركة خطابيَّة بائسة يائسة مع قائد الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الدكتور جون قرنق. إذاً، ماذا جاء في خطاب السيِّد الصَّادق المهدي الأوَّل إلى الدكتور جون قرنق؟ أو ما الجديد الذي حمله ذلكم الخطاب بين ثناياه؟ جاء في خطاب الصَّادق – فيما جاء – أنَّ حزب الأمة كان مبادراً “لدخول الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان في عضويَّة التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، وتقديم الحركة الشعبيَّة إلى الرأي العام العربي.” وزعم رئيس حزب الأمة “أنَّهم في مباحثاتهم مع أطراف مهمَّة في الأسرة الدوليَّة (لم يسمِّيها) لم تترك لديهم شك في أنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، إلى جانب الحكومة، الطرف المسؤول عن انتهاكات حقوق الإنسان، وإدامة الحرب.” وأضاف الصَّادق ذاكراً في خطابه: “كنا نتوقَّع أن يكون لقاء جيبوتي مع (الرئيس عمر حسن أحمد) البشير اجتماعاً عاديَّاً، لتبادل وجهات النَّظر حول سبل تنشيط المبادرة المصريَّة-اللِّيبيَّة، وموازنة اجتماع جنيف مع (الدكتور حسن عبد الله) الترابي، وتوفير الفرصة لنا لشرح ضرورة إجراءات بناء الثقة، عوضاً عن التبادل البسيط للرأي، (ولكن) وجدنا البشير مهيَّأً لصفقة أكبر، وبالتَّحديد أن يوقَّع على خلاصة من ورقتنا المذكورة.” ثم تطرَّق الصَّادق إلى وجود احتمالين يمكن أن تحدثا في الأزمة السُّودانيَّة. “أولاً: سيناريو تصفوي لشن تحدٍّ ناجح لنظام الحكم واقتلاعه، وإنَّ هذا يحقِّق – بالطبع – أحلام الكثيرين ممن عانوا الكثير على يد هذا الحكم، لكن وسائل تحقيق هذا السيناريو غير متاحة. ثانياً: إدامة المأساة الإنسانيَّة الناشئة عن الحرب في السُّودان لتوفير الظروف من أجل تدخُّل دولي محتمل، ولكن التدخُّل إذا ما حصل، لن يستهدف الحل الشَّامل للنِّزاعات في السُّودان، بل سيطبِّق ببساطة، نموذج كوسوفو أو تيمور الشرقيَّة.”
الجلي في الأمر أنَّ الحركة الشعبيَّة منذ نشأتها قامت وبادرت من تلقاء نفسها في تعريف القضيَّة السُّودانيَّة في العالمين العربي والإفريقي والغربي، وكان من الوسائل التي اتَّخذتها في هذا الصدد أن بعثت بالقائد يوسف كوَّة مكَّي إلى جمهوريَّة اليمن لكي يكون ممثِّلاً للحركة فيها، وكان القائد يوسف يؤدِّي رسالة الحركة الديبلوماسيَّة في هذه الدولة العربيَّة، حتى حين سمع من إذاعة أم درمان عما أسمَّوه “المحاولة الانقلابيَّة العنصريَّة” في الخرطوم في أيلول (سبتمبر) 1985م، وتفاجأ يوسف أن يُذاع اسمه تهيماً في تلك المحاولة، وأوردت الأنباء الأمدرمانيَّة – فيما أوردت، أو بالأحرى لنقل فيما فبركت – أنَّ هناك طائرة تجثو على أهبة الاستعداد في مطار دولة أجنبيَّة جارة لنقل قادة الانقلاب من الخارج لاستلام السُّلطة في الخرطوم. فتبسَّم يوسف ضاحكاً وقال في نفسه لنفسه ما لهؤلاء القوم يكذبون ويعنفون في الكذب، ثمَّ يتزيَّدون.
كذلك قامت الحركة الشعبيَّة على يد مستشارها الدكتور منصور خالد بتعريف العالم العربي بالقضيَّة السُّودانيَّة، وتعنُّت صفوة الشمال تجاه أهل الجنوب، وذلك في مقالاته الرَّصينة وتآليفه العديدة، وبخاصة “الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة” (1986م)، و”النُّخبة السُّودانيَّة وإدمان الفشل” (1993م)، و”جنوب السُّودان في المخيَّلة العربيَّة.. الصُّورة الزَّائفة والقمع التأريخي” (2000م)، و”السُّودان.. أهوال الحرب وطموحات السَّلام (قصة بلدين)” (2003م)، و”تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد.. حول قضايا التغيير السِّياسي ومشكلات الحرب والسَّلام في السُّودان” (2010م)، وأخيراً “انفصال جنوب السُّودان، زلزال الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أيديولوجيَّات أم عقائد؟!” (2012م)، وكان ذلكم الجهد الجهيد قد أُنجِز، ولئن لم يلتفت قادة العرب وشعوبهم إلى مآسي أهل الجنوب، بل قاموا بدعم الطائفة الحاكمة نسبة للتكافؤ الأيديولوجي والتماهي الأثني المزعوم. وحين قام الدكتور قرنق بزيارته التأريخيَّة إلى القاهرة العام 1997م كان الإعداد لهذه الزيارة بواسطة ممثِّلي الحركة الشعبيَّة في الشرق الأوسط، أي مكتب القاهرة، وليست بوساطة من الصَّادق المهدي. وهل انفتاح ليبيا القذَّافي على الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في نشأتها الأولى في مستهل الثمانينيَّات، وزيارة قادة الحركة بما فيهم رئيس الحركة الدكتور قرنق إلى ليبيا بوساطة من الصَّادق المهدي، برغم مما كان من علائق بين المهدي والقذَّافي؟ كلا! أولاً: كانت للقذَّافي عداوة وبغضاء مع الرئيس السُّوداني الأسبق جعفر محمد نميري، وقد وجد القذَّافي في الحركة الشعبيَّة فرصة للانتقام من عدوِّه اللَّدود. ثانياً: كانت فلسفة القذَّافي في ذلك الحين من الزمان مبنيَّة على مبدأ بأنَّ عليه أن يتدخَّل في كل مشكل من مشكلات العالم، لأنَّه – حسب إيمانه – إذا لم يتدخَّل فإنَّ الآخرين لسوف يتدخَّلون.
وبعدئذٍ ألم تر كيف ينظر الصَّادق من عليائه على الأغيار من أهل البلاد الأصلاء، ويعتمل في نفسه الزهو بأنَّه هو الوحيد الذي يمتلك مفاتيح الانفتاح على العالم العربي. فبنظرة مستقصية لذلك القول القائل “إنَّ حزب الأمة كان مبادراً لتقديم الحركة الشعبيَّة إلى الرأي العام العربي” نرى أنَّ الصَّادق كان منطلقاً من أوهام في دواخله بأنَّه عربي ومسلم فهو، إذاً، الأجدر والأقدر في أن يقترب إلى القادة العرب والأمَّة العربيَّة وبعدئذٍ يقدِّم الحركة الشعبيَّة وقادتها الأفارقة غير المسلمين إليهم! هذه نظرة عنصريَّة واستعلائيَّة في الآن نفسه، ثمَّ إنَّها لأبويَّة صفويَّة في الحين ذاته، والتي لا ترسم إلا صورة “أنا” الأنانيَّة التي لم يفتر الصَّادق المهدي يوماً في وصف نفسه بها في كل لقاءاته تارة، وحزب الأمة تارة ثانية.
وعوداً إلى سيناريوهي الصَّادق اللذان سبق ذكرهما، فقد أكَّد “أنَّ هذين السيناريوهين كليهما مرفوضان بالكامل من وجهة النَّظر الوطنيَّة.” ولا نعتقد أنَّ السيناريو الأوَّل مرفوض أصلاً، بل رفضه الصَّادق الذي يعتبر نفسه وطنيَّاً أكثر من كل السُّودان، وفي ذات الوقت يصف هُويَّته بالإسلامي العروبي، فأين إذن وجهة النَّظر الوطنيَّة السُّودانيَّة أو لنقل السُّوداناويَّة؟ قد يعتبر الصَّادق نفسه معبِّراً عن رأيه، أو رأي حزبه، لكنه لا يمكن أن يضع نفسه ممثلاً للشعب السُّوداني خاصة، ومعبِّراً عن وجهة نظره الوطنيَّة عامة. ثمَّ ألم يكن هو ذلكم الشَّعب الذي أمسى يخرج – وما يزال – بين الحين والآخر مردِّداً شعارات مثل: “الأميريكان ولا الكيزان!، و”الشَّعب يريد إسقاط النِّظام!” أفليست هذه هي النظرة الوطنيَّة للشَّعب السُّوداني عما يحتمل في نفسه ووجدانه! فأيهما أكثر وطنيَّة الذي ينادي بأنُّه يريد أن يشعر بأنَّ السُّودان وطن يسع جميع مكوِّناته بعد أن قسَّمه أهل “الإنقاذ”؟ ومع ذلك يملأ الصَّادق المهدي الأثير أنَّه يرفض كلمة إسقاط النِّظام، ويفضِّل مفردة تغييره! صحيح أنَّ التدخُّل الخارجي قد يؤدِّي إلى الاستقطاب السِّلبي، ولكن علينا أن ندرك أنَّ فشل الأنظمة الحاكمة في السُّودان أو في أيَّة دولة أخرى في إدارة الأزمات، واحترام حقوق الإنسان، وغياب الإرادة السِّياسيَّة لحل مشكلات البلاد، وتفشِّي المآسي الإنسانيَّة، التي تبثها دور الإعلام الأجنبي بحيث تتفاعل معها شعوبها وحكوماتها هي التي تدفع الدول الأجنبيَّة في التدخُّل لإنقاذ حياة المواطنين من جور حكوماتهم، ومن ثمَّ قد يؤدِّي الأمر إلى انفصال جزء من أجزاء البلاد لأي بلد.
ثمَّ ليس كل تدخُّل دولي يطبِّق نموذج كوسوفو أو تيمور الشرقيَّة كما بات يزعم الصَّادق؛ إذ أنَّ التدخُّل الدولي في جمهوريَّة يوغسلافيا السابقة لم تفض إلى نموذج كوسوفو فحسب، بل عمل إلى إنقاذ المسلمين البوسنة من محرقة الصِّرب، وأفضى إلى التوقيع على اتفاقيَّة دايتون للسَّلام في الفاتح من تشرين الثَّاني (نوفبمبر) 1995م برعاية الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة. وهل أدَّى الوجود الدولي في جمهوريَّة الكونغو الدِّيمقراطيَّة منذ العام 1999م إلى فصل جزء من أراضيها، أو وجود القوات البريطانيَّة في سيراليون في الفترة ما بين (2000-2001م)، أو تواجد القوات الفرنسيَّة في مالي (2012-2014م)، وفي جمهوريَّة إفريقيا الوسطى (2013-2016م)؟ كلا! وهل أدَّى وجود قوات يوناميد في درافور منذ العام 2007م إلى انفصال إقليم دارفور في السُّودان؟ كلا! حتى في حال تواجد القوات الغربيَّة بقيادة الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة في العراق لم يستطع الأكراد انتزاع استقلالهم، برغم مما لديهم من تأريخ قديم في المطالبة بحقوقهم القوميَّة (الأثنيَّة واللُّغويَّة)، والإلحاح في أن يعيشوا في دولة مستقلة ذات سيادة كرديَّة.
أيَّاً كان من أمر، ففي ردِّه على مزاعم الصَّادق المهدي، وصف الدكتور قرنق أنَّ ما أورده المهدي في رسالته حول دور حزب الأمة “لدخول الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان في عضويَّة التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي” بأنَّه تشويه للتأريخ. ففي حقيقة الأمر، “كانت الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان تربطها علاقات عمل وثيقة مع حزب الأمة، داخل وخارج التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، إلا أنَّ ظهور المهدي في الصورة عقب خروجه من السُّودان غيَّر الأجواء داخل أروقة التجمُّع؛ فإنَّ الكثيرين من السُّودانيين يزعمون أنَّكم جئتم إلى التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي كطابور خامس لمصلحة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وحذَّرونا من ذلك، فلقاء جنيف ومن بعده لقاء جيبوتي، بالإضافة إلى دفء العلاقات بينكم والجبهة القوميَّة الإسلاميَّة تشير كلها إلى بعض الحقيقة في هذه المزاعم.”
أما اتِّهام الصَّادق المهدي للحركة الشعبيَّة بأنَّها رفضت انضمام التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي إلى منبر الإيقاد، فهذا تحريف الصَّادق لموقف الحركة الشعبيَّة تجاه موقفها من التجمُّع والإيقاد. فالمعلوم بأنَّ الحكومة السُّودانيَّة هي التي رفضت انضمام التجمع إلى الإيقاد. ففي إحدى اجتماعات الإيقاد طلبت الحركة مشاركة التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، مما أثارت حفيظة وفد الحكومة السًّودانيَّة وقال قائلهم إذا دخل وفد التجمُّع من الباب لسوف نخرج من الشباك، دون أن يدرك أو يفكِّر في علو الشباك من الأرض أو ما كان وراءه! أما فيما يختص مغالطات ومتناقضات الصَّادق حول المبادرة المصريَّة-اللِّيبيَّة العام 1999م، فقد أسهبنا في هذه القضيَّة في تأليف سابق أصدرناه من جزئين،(17) ولسوف يكون الحديث عن المبادرة إيَّاها جزءً لا يتجزَّأ من موضوع بحثنا في تأليف آخر بالإنكليزيَّة قريباً.
أما “حول الاتِّهامات التي وردت في خطاب الصَّادق عن انتهاكات الحركة الشعبيَّة لحقوق الإنسان،” فرد الدكتور قرنق قائلاً: “إنَّ الجيش الشَّعبي والحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان لا يعتبران حكومة موقِّعة على مواثيق وقواعد دوليَّة، بل حركة تحرُّر تشن حرباً من أجل العدالة، غير أنَّ الجيش الشعبي ملتزم بالقوانين المعترف بها دوليَّاً في حالة الحرب ومعاملة المدنيين الأبرياء وأسرى الحرب، مؤكِّداً أنَّ المناطق التي تسيطر عليها قوات الجيش الشعبي مفتوحة أمام كل من يريد الوقوف على أوضاع حقوق الإنسان. وذكر قرنق في معرض ردِّه أنَّ الحركة الشعبيَّة أطلقت سراح آلاف الأسرى من قوات الحكومة في الوقت الذي أعدمت فيه القوات الحكوميَّة في وقت سابق أسرى الحركة لديها.” وكان قرنق يشير في هذه النقطة إلى إعلان الجنرال عبد العظيم صادق محمد، الرئيس السَّابق لهيئة أركان الجيش السُّوداني إعدام 27 من أسرى الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، ويذكر أنَّ هذا الحدث وقع عندما كان المهدي رئيساً للحكومة السُّودانيَّة قبل أكثر من ثلاثة عقود (…).”(18)
أما في خطاب السيِّد الصَّادق المهدي الثَّاني إلى الدكتور جون قرنق في أذار (مارس) 2000م فقد تكلَّم الصَّادق وأسهب في الكلام – كعادته – عن إنجازات حزب الأمة التوهُّميَّة والتخيُّليَّة. وإذ نحن نقدِّر ونثمن شجاعة جماهير حزب الأمة، إلَّا أنَّها ترزح تحت نير القيادة الخطأ، وهي قيادة ظلَّت متهافتة في المعارضة وعلى السُّلطة كلَّما لاحت لها بارقة أمل، وفي ذلك قول الصَّادق في خطابه: “لقي النِّظام منا صموداً وتصدِّياً، ولقي في محاولاته إخفاقاً فتداعت أجندته وتبدَّل خطابه، ولكن بعضكم من فصائل التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي لم ير في المستجدَّات جديداً؛ وعندما أقدم حزب الأمة على مخاطبة المستجدَّات تكالب عليه هؤلاء تكالبهم على ذي جنة، وأمطروه وابلاً لم يمطروا به الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بمثله (…) استطاع (حزب الأمة) بحركته ضمن عوامل أخرى أن يحقِّق هامش حريَّة أوسع؛ هامش حريَّة أسرعنا لتوظيفه لمصلحة القضيَّة الوطنيَّة.” إذ ليست هناك ثمة قضيَّة وطنيَّة عند الصَّادق، بل مصالح شخصيَّة خاصة، وحزبيَّة بشكل عام. وبما أنَّ الحزب هو آل المهدي، فإذاً في المحصلة النهائيَّة المصلحة مصلحة آل البيت المهدوي. فهل نسي الصَّادق تذمر نفر من “جيش الأمة” الذي عاد إلى الخرطوم، أو لنقل أم درمان، نتيجة المعاملة السيئة التي تلقوها بعد عودتهم؟
ثمَّ ذكر الصَّادق – وهذا هو الأهم في الأمر لما له من تبعات في السِّياسة التي بات ينتهجها طيلة عمله في التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي موارباً تارة، وملمِّحاً تارة أخرى – أنَّه “ينبغي ألا يخفي علينا أنَّه بالقياس للظروف ما بين العام 1995م والعام 1998م فإنَّ فرص العمل العسكري صارت أضيق، بينما فرصة العمل السِّياسي والديبلوماسي صارت أكبر.” هذا الإيفاد يعني التخذيل ومحاولة إبعاد غيره عن النِّضال المسلَّح، برغم من أنَّ الصَّادق كان يدرك تماماً بأنَّ النِّظام لا يهتم بمثل هذا النمط من المعارضة، بل كان – ولا يزال – يسفهه ويسخر منه وينعته بمعارضة الفنادق و”الكيبورد”، ويردِّد دوماً وفي أكثر من مناسبة بأنَّ من يريد اقتلاعنا من السُّلطة فعليه أن يقابلنا بالعمل المسلَّح. ثمَّ يناقض الصَّادق نفسه بالقول: “إنَّنا لا نستطيع أن نجزم بحقيقة نيَّة النِّظام ولا قدراته على الوفاء بالسَّلام العادل والتحوُّل الدِّيمقراطي الحقيقي، ولكن إذا تقاعس عن الوفاء فإنَّه حتماً سيواجه جبهة وطنيَّة، وإقليميَّة، ودوليَّة لا مهرب من حصارها.” ومتى انصاع النِّظام “الإنقاذي” إلى حصار جبهة وطنيَّة عريضة كانت أم غير عريضة، أو إقليميَّة كانت أم دوليَّة! ومتى رضخ النِّظام “الإنقاذي” إلى القرارات الأمميَّة بتعدادها وكثرتها وطول آمادها! وحين لم يجد الدكتور قرنق بدَّاً في الرَّد على خطاب الصَّادق الثَّاني آثر الالتفات إلى قضايا جوهريَّة في الحركة الششعبيَّة على وجه الخصوص والسُّودان على وجه العموم.
وفي نهاية الأمر خرج الصَّادق مغضاباً من إخوته في التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، وانطلق إلى الخرطوم بعد توقيعه نداء الوطن مع الرئيس البشير في جيبوتي العام 1999م، زاعماً بأنَّه ذاهب إلى السُّودان لقيادة الانتفاضة المدنيَّة ضد النِّظام “الإنقاذي” من الدَّاخل، إلا أنَّنا لم نر الصَّادق ممتطياً جواداً أبيض وقائداً لثورة شعبيَّة لاقتلاع النِّظام من جذوره، وتجفيف منابع الإنقاذ عن طريق الجهاد المدني، بل أنفق جل وقته في التسفار والترحال، خطيباً في المحافل العربيَّة والإسلاميَّة، ومصرِّحاً ببعض الأقوال المريبة حتى ظننا، أو بالكاد أصابنا شيء من الشك عظيم، بأنَّ الرَّجل إيَّاه سفير التناقضات المتجوِّل.
وفي سعيه الدؤوب على إملاء الأشراط على الأغيار حتى على المنظَّمات الدوليَّة حدَّد الصَّادق المهدي في المؤتمر الصحافي الذي عقده في الخرطوم بعد عودته من زيارته إلى دارفور “10 نقاط لقبول دخول قوات دوليَّة لحفط السَّلام في دارفور، أولها أن يدرس مجلس الأمن الوضع مليَّاً، وأن يتَّخذ قراره دون السماح لأيَّة دولة أن تنفرد وحدها بالأمر وتتجاوز القانون الدولي، وأن تكون مهام القوَّة الدوليَّة واضحة ومحدَّدة في مراقبة وقف إطلاق النار وحماية المدنيين ونزع سلاح القوى غير النِّظاميَّة، وعودة النَّازحين وتعويض ضحايا الجرائم، وحماية الإغاثة مع إدراك التنُّوع السِّياسي والأثني في الإقليم، والالتزام التَّام بالحياد، وتحديد زمن لإكمال المهمة، وإنشاء هيئة سودانيَّة للمتابعة.”(19)
بغض الطرف عن إيجابيَّة النقاط أو عدمها فإنَّ من ينظر إلى هذه الشروط يُخال له أنَّ الصَّادق في حال تفاوض مع الأمم المتَّحدة، وأنَّه في منصب رئيس وزراء السُّودان. ومع ذلك، نسي الصَّادق – أو بالأحرى تناسى – أنَّ لكل من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن حق النقض أو الفيتو، الذي منحته لنفسها، ويمكنها أن تعترض على أي قرار لا يتماشى مع سياساتها القوميَّة أو الإقليميَّة أو الدوليَّة، أو توافق عليه بتوضيحاتها وشروطها. أيَّاً كان من الأمر، فكان من الأجدر للصَّادق أن يجلس مع حكومة “الإنقاذ” ويملي عليها أشراطه هذه ليحملها ديبلوماسيوها إلى أروقة الأمم المتَّحدة للتفاوض مع مبعوثي هذه المنظَّمة الدوليَّة، أو يذهب الصَّادق نفسه إلى مقر هذه المنظَّمة الدوليَّة في نيويورك للتفاوض معها إذا كان يرى أنَّه ما يزال رئيس وزراء السُّودان المنتخب وله الصلاحيات كل الصلاحيَّات التفاوضيَّة حتى بعد إخلائه من السُّلطة. أما غير ذلك فيمسي مؤتمره الصحافي ذاك ما هو إلا إطلاق الكلام في الهواء للاستهلاك الإعلامي فقط دون أن يعيره أحد انتباهاً أو اعتباراً.
مما سردناه لكم إيَّاه نخلص إلى القول هنا إنَّ أداء الصَّادق في المعارضة ليمتاز بسمتين كلاهما تتَّصف بالتهافت على المعارضة وهما: إحداث انشطار في المعارضة وتفريق كلمة الأحزاب المعارضة تارة، والسَّعي الحثيث إلى تحقيق مصالحه الشَّخصيَّة والحزبيَّة مستغلاَ مركبة المعارضة طوراً آخر. وما يطلق عليه الصَّادق الحل السِّياسي الشَّامل لا يعدو أن يكون سوى مصالحة مع نظام المؤتمر الوطني المتحكِّم، وهو شعار أريد به إلباس الجديد ثوباً قديماً زائفاً. ومع ذلك، فحين تنشطر أحزاب المعارضة تمسي – بالتطبُّع والطبيعة – مجموعات متنافسة ذات مصالح ذاتيَّة، بحيث لا يكاد يهمُّها أمر القضيَّة الوطنيَّة أو المصلحة العامة كثيراً أو قليلاً. بيد أنَّ ما أوردناه من نماذج هو جزء قليل من أساليب الصَّادق المهدي في معارضة الأنظمة السُّودانيَّة، وتعامله مع زملائه في المعارضة نفسها سواء من أهل الشمال أو الجنوب. إذ كان الصَّادق في كل هذا يحتفظ بشيء من الودِّ كثير مع الحركة الإسلاميَّة في الحقب المختلفة من تأريخ الحركة السِّياسيَّة في السُّودان، وسنبين بعد حين هذه العلاقة الوديِّة.