اخبار السودان اليوم

السودان: العيكورة يكتب: سُوق الثلج فى حِلّتنا

لا أذكُر أن أهلنا كانوا يُخبّؤن عنّا أياً من مُناسباتهم الدينية عندما كُنّا صِغاراً بل كانوا يتعمدون ذلك عند ظُهُور هلال شهر رمضان أو عندما يقترب مُوسم الحج وسفر الحُجّاج و كُنّا نعرف أن أهلنا يصُومُون الأثنين والخميس تطوعاً وأن هُناك صيام يُسمى (السُتُوت) من غير أن نفهم ماذا تعني وكُنّا نعرف أن الشريف الصديق الهندي (رحمة الله عليه) عندما يأتي لأهله في مناسباتهم أن القرية كُلّها ستغشاها البركات والدعوات الصاعدة. هكذا يقينُ أهلنا وسيُحظى الُكّل بالتعافي من أسقامه قديمُها وجديدُها. هكذا كُنّا نرى الفرحة في عُيُون أهلنا وهكذا كان مُعتقدِهم، لم يُغيبُوننا عن معرفة بعضاً من الدين رغم صغرنا كانوا يستمعون بإصغاء لكل إسئلتنا الطُفُولية فيُجيبوننا بقدرِ عُقولنا فنسمع منهم ما يُفرحُنا ويُشبع فضولنا رغم أميتهُم. وما أشكل عليهم من أمور دينهم يتجهُون به لفُقهاء القرية الشريف الصديق والفكى أبوعلامة وأحمد ود بابكر ومحمد الحاج عبد الرحمن وحسن الشريف كان هذا قبل يلحق بهم جيل الأزهر الأستاذ على ودحقار والأستاذ البشير ود عشرين رحمهُم الله جميعاً.
كانت (العيكورة) تصحُو باكراً وتنامُ باكراً قبل أن تدخُلها الكهرباء أواخر السبعينيات فلا مُلهيات للسهر إلا اليسير الذى قد يُصاحب هذا الشهر الفضيل و لا أظُن كان ذلك من أجل السهر بقد ما هُو ضرورة لتنظيم الوجبات فكانوا يُرحلون الوجبات الثلاث ليلاً (إفطار وعشاء وسحور) ويُفضلون الخُضروات الباردة هكذا كانوا يُطلقون على الملوخية المفروكة والبامية بالورق والويكة والشمار الأخضر بإعتبارها الأريح للمعدة مع الصيام ولا أذكُر أن السلطة الخضراء كانت تغيب عن موائدهُم أمّا اللحم المُحمّر فيظهر ويختفي حسب الوضع المادي للأسرة ولم يكُن للرغيف شأنُ فى طعامهم إلاّ يسيراً. أما السحُور فلا أذكُر أن أحداً من القرية كان لا تصله ضربات (صفيحة) الفكي إبراهيم موسى يجُوب القرية كلها (يا صائم قُوم اتسحّر) يزيدُ نباحُ الكلاب صداها فتصحُو القرية، لا أحد كان يبيعُ اللبن آنذاك فالقرية كُلها زرائب وأبقار يتهادون فيما بينهم كل أنواع الأطعمة عبر حيطان الجالوص المتواضعة بين البيوت وأبوابهِم لا تعرفُ المفاتيح.
الفسحة التي بين ديوان الشريف الصديق وديوان ود الطيب ودُكان حسن الشريف وتمتد شرقاً حتى دُكان محمود ود صالح وجنوباً حتى شجرة حاجة حواء إمرأة كانت تبيعُنا الفول المدمس تأتينا من قرية عبد العزيز فكُنا نُسمي الشجرة بإسمها، كانت هذه الفسحة هي سُوق صغير مُستحدث في رمضان يجتمع فيه رجال وشباب القرية ولا تواجد للنساء فى أسواقنا مُطلقاً آنذاك، فكُنا نُطلق عليه (سُوق التلج) يُباع فيه الثلج والليمون والنعناع والسْلَطَة ويبدأ من بعد العصر والى قُبيل الأذان، كل أسرة بالقرية كان لها (خيشة) مُبلّلة لشراء الثلج ولا أذكُر أن التعامل كان يتعدى الثلاثة والخمسة للشراء، عبد الله ود حمد النيل موظف البُحُوث الزراعية كانت له تجارة ثلج وحضور وصوتُ رنّان ، (الجَنَا علي) كان له ليمون وقرع وطرفة وكان مُغرماً بقرض الشعر الأخضر فيجتمعُ حوله الشباب يُسمعهم جديدهُ وأذكُر أنه كان مُبدعاً في ترديد أغاني الفنان أحمد المصطفى وله قدره بارعة في إبراز دندنة العُود، أولاد محمد يوسف ود عبد السلام أيضاً كان لهم (خدار بارد) لمن فاته سوق الجزارة الصباحي فيُمكن أن يجد عشاءه لديهم. فسوقُهم صغير بحجمه كبيرٌ بالمودة والتآلف .
كانت طفولتنا ما قبل المدرسة نعرف جيداً أن هُناك رمضان وحج وأضحية وطلاق وحرام وحلال . فأعجبُ مِنْ مَنْ تسنموا أمر الأمة بالحكومة يَسْعَون لسلخ الدين سلخاً من حياة الناس. أعجبُ من من يُحاول وزن سور القُرآن الكريم بالميزان ويُمترُها بالسنتمتر ثم يُقرر أيُهُما تُناسب أطفالنا ! أعجبُ جداً مِنْ مَنْ يُحدثُنا عن آيات زكاة الإبل فهل بالقرآن آياتُ بهذا المعنى؟ أعجبُ جداً مِنْ مَنْ يُحدُثناُ مذعوراً أن سورة الزلزلة تُخيفُ الأطفال ! أأنتم أعلم أم الله؟ كان كبارنا يُحدثوننا ويحببونا فى الدين بكل بُشرى بأننا مسلمون وهؤلاء يسعون لإخافة أطفالنا بالدين ! وقناعتنا الراسخة أن بيضة الدين محروسة بنصّ القرآن (إنّا نحنُ نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) الآية . اللهُم ببركة هذا الشهر الكريم وأكُف الصالحين من عبادك وبدعوات من إذا أقسم عليك بررته أن تأخذ (القرّاي) أخذ عزيزٍ مُقتدر اللهُم وأرنا فيه عجائب مقدرتك اللهُم وأجعله لمن خلفه عبرةً وآيه اللهُم وأكفنا شرهُ بما شئت وأثلج به صُدُور قومٍ مؤمنين .

قبُل ما أنسى :ـــــ
إعتاد بعضُ أهلُنا أهلنا بالعيكورة وبعض القُرى الواقعه على طريق الخرطوم مدنى على إقامة موائد الإفطار على الطريق ، فأتمنى هذا العام أن يُجمدوا هذا الخير والفضل وأن يستعيضوا عنه بإخراج الماء والتمر والعصائر يضعونها بجوار الطريق وأن يوكلوا ذلك لبعض الشباب للإشراف عليها دون أن يتجمعوا تقديراً للظرف العالمى حتى تنجلى جائحة (الكُوُرُونا) بإذن الله وبذا يكونوا قد حموا أنفسهم وأسرهم و صاموا وفطّروا صائماً من غير أن يجتمعوا كما أنه بالإمكان الإستعاضة بالصدقة النقدية للفقراء بدلاً عن الإطعام .
حفظ الله وطننا وأهلنا وتقبل منهم الصيام والقيام وصالح الأعمال . و لكُلّ أهلى الكرام بالعيكورة (الشهر مُبارك عليكُم) .
بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)

Exit mobile version