مفاوضات السلام بين الحكومة والجبهة الثورية في جوبا اختلفت حول نسبة توزيع الثروة بين المركز ومناطق الحروب.. الحركات المسلحة طالبت بـ70% للولايات، مقابل 30% للمركز.. الحكومة عكست الآية، 70% للمركز و30% للولايات، الوساطة اقترحت 60% للمركز و40% للولايات.
أفهم أن يقف شخص بالسوق في مواجهة بائع ويبدأ مسلسل المساومة.. كل طرف يجر الحبل في الاتجاه الذي يريده إلى أن يصلا إلى نقطة التراضي وتتم البيعة.. فهل هذا هو حال العلاقة في السودان بين المركز والولايات؟
المشكلة هنا ليست في القسمة بين المركز والولايات مهما كانت الأرقام المقترحة أو تلك التي يتفق عليها الأطراف في نهاية التفاوض، المشكلة في العقلية التي تجعل هذه الأرقام هي (العلاقة!) بين المركز والولايات.. بكل يقين هي عقلية لا تنظر بأكثر من معيار البائع والمشتري لسلعة غير معلومة..
الوطن السودان هو وحدة جغرافية واقتصادية واحدة، فإذا كان العائد على الاستثمار أعلى في ولاية بعينها فلماذا لا ننفق فيها أكثر من غيرها.. بعبارة أخرى إذا كان العائد من الاستثمار في جبل مرة أو جبال النوبة أو النيل الأزرق أو القضارف أعلى كثيرا من ولاية كسلا مثلا، فما الذي يمنع أن تغدق الحكومة المركزية الانفاق في الولايات ذات العائد الأكبر طالما أن المستفيد في النهاية هو الوطن والمواطن السوداني.
العقلية الحاكمة للسودان منذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة تنظر للخرطوم باعتبارها مقياس النجاح التنموي، فتشييد كبري في الخرطوم لأن عائده السياسي أعلى كثيرا من كبري في ولاية سنار مثلا، وتشييد مائة كيلومتر من الطرق المسفلتة في الخرطوم أفضل “سياسيا!” من ألف كيلومتر في جبل مرة أو القضارف أو جبال النوبة رغم أن العائد الاقتصادي من تلك الولايات أعلى بكثير من العاصمة.. لكن العقلية الحاكمة دائما تسدد الكرة في شباك الملعب السياسي الحزبي لا الاقتصادي القومي.. وهذا ما يجب أن يتغير في دولة السودان الحديثة التي أنجبتها ثورة ديسمبر المجيدة.
المطلوب الآن ليس قسمة موارد ولائية ،بل تعظيم المكاسب القومية.. على مبدأ أن الولايات هي منبع الانتاج ، والعاصمة هي بؤرة الاستهلاك.. والمطلوب وضع خطة استراتيجية قومية توجه الغالب الاعم من الاستثمار والتنمية للولايات، لتسريع النهضة ثم لتتولى الولايات مستقبلا تنمية العاصمة من فضول مواردها.
تركيز التنمية في العاصمة أحدث تجريفا هائلا للسكان في مناطق كثيرة من السودان، وأصبح الأثرياء ينافسون الفقراء في الهروب من الولايات نحو الخرطوم، لدرجة أن حكام الولايات يقيمون مع أسرهم بالخرطوم ويحكمون الولايات بزيارات”عزابة” متقطعة.
ليتني أسمع مفاوضا واحدا من جانب الحركات يطلب مطارا أو شوارع أو طاقة كهربائية أو مشروعات زراعية لأقاليم النزاعات، بكل أسف تنحصر المطالب في كراسي حكم في الخرطوم بين مجلس الوزراء والبرلمان ، ومناصب ولاة يحكمون ولاياتهم بـ”الوايفاي” من الخرطوم.
أما آن لعقلية الساسة أن تتغير!
صحيفة التيار