كان يعمل معنا سائقاً بصحيفة ألوان أيام الزمن الجميل. وقد كان يهتم جداً بمظهره وعطره وحذائه اللامع وابتسامته الرحيبة. كنت أقول له ممازحاً: (إت يا إسحاق ماهيتك دي كلها تسويها عطر ودلاقين ونعلات؟). كان يضحك بطريقته المميزة ويقول لي: (إن الملابس يا أستاذ يجب أن تشابه المهنة).
ولأنه كان من خريجي الثانويات الذين عبس لهم الحظ وقد أخرجت له بطاقة علاقات عامة وقلت له ساخراً: (مافي في الدنيا دي مهنة سواق كل الناس أصبحوا سواقين) فكان يرد ضاحكاً: (لكن سواقة لي سواقة تفرق يا أستاذ).
وأذكر أنه حين تم إيقاف (ألوان) سلمني سيارة الصحيفة فكانت لدهشتي كالجديدة، لقد كان يحرص على نظافتها وإبدال اسبيراتها واكسسواراتها حتى من راتبه الضئيل الخاص.
انقطعت بيننا الصلة لتباعد الخطى في هذه (الزايلة أم بناياً قش)، وبعد أن غادرنا علمت أنه اشترى سيارة أمجاد فصارت مورده في سبل كسب العيش بعد أن تزوج بفتاة ودود ولود ليس في ثقافتها حبوب منع الحمل، ملأت عليه (سدر البيت) طفلات كالأزاهير.
زارني قبل أيام وبالكاد عرفته، قلت له: (مالك بقيت مشلهت كده يا إسحاق بعد أن فارقتنا أو كما تقول صاحبة أبي فراس: (لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر..) فقال لي بلهجة كسيرة: (ليس كذلك ولكنني أتيت من آخر الدنيا بالمواصلات وأجارك الله من المواصلات هذه الأيام)، قلت له: (أين الامجاد)؟ فرد قائلاً: (كنت أحرص دائماً على تغيير الزيت في مواعيده تماماً، فالزيت كما تعلم روح الماكينة. أما الاسبيرات فقد كنت (أجازفها) من محلات المستعمل وقدامى أهل الصيانة والميكانيكا فلما اشتدت وطأة الخبز والوقود والغاز والإيجارات ومصاريف البيت ومصاريف الأولاد والمدارس والأمراض الطارئة توقفت عن شراء الاسبيرات ودخلت في دوامة تأجيل تغيير الزيوت بعد ارتفاع أسعارها الجنوني إلى أن أتى اليوم الفاجع). هنا صمت إسحاق وسالت منه دمعة قطعت قلبي وقلبه قلت له: (ماذا حدث)؟ فقال لي وقد مسح الدمعة بأقصى كم قميصه الأغبر: (صَلّبت يا أستاذ).
صمتنا سوياً لدقائق وأدخلته المكتب وأصبحت أسري عنه مواسياً بحق الصحبة القديم وقلت في نفسي: (ترى هل هذه مأساة أغبش أم مأساة وطن)؟.
عزيزي وزير المالية: بقليل من التنقيح والترتيب يمكن أن تكون هذه الحكاية المؤلمة ورقة في المؤتمر الإقتصادي المستحيل القادم الذي يتصدره أصحاب الياقات البيضاء الذين حلوا كل معضلاتهم وامتيازاتهم الشخصية والعائلية منذ الاستقلال إلى اليوم ولكنهم للأسف لم يجدوا لنكباتنا حلولاً.
لي رجاء صحفي أخير على طريقة فن العناوين يتصدر ورقة الجانقو والجانقي وأهل العوض وملح الأرض في المؤتمر القادم الذي لن يعقد أبداً، وإن عقد فلن يفيد كالسالفات.. (صَلّبت يا دكتور)
حسين خوجلي