اخبار السودان لحظة بلحظة

السودان: أحمد يوسف التاي يكتب: في أول أيام الحظر

في عهد حكومة الصادق المهدي ، كانت هناك أزمة مواصلات حادة ، وقتها كانت المحطة الوسطى بحري تئنُ بجمعِ غفير من المواطنين المتجهين إلى أم درمان وقد طال انتظارهم ولم يجدوا مركبات تقلهم إلى حيث يريدون…حينها التفتوا فوجدوا النائب البرلماني هاشم بامكار نائب الشرق الأشهر وصاحب التندرات والطرائف المعروف، فطفقوا يشكوا حالهم ويبثوا أحزانهم لنائب البرلمان هاشم بامكار – رحمه الله –
فقال احدهم موجهاً حديثه له:( يا السيد النائب شوف الحال دي ، عليكم الله بعدين ناقشوا لينا في البرلمان موضوع المواصلات دا..)..
ابتسم بامكار وقال بسخريته المعهودة:(كدى أول نصل..)..
اليوم السبت بعد صلاة الفجر وبينما أنا استعد لرحلة البحث عن غاز الطبخ ، ذهبت إحدى بناتي للحصول على الخبز وبحثت في ثلاثة مخابز فلم تجد وقد اغلقت بعض المخابز ابوابها منذ السادسة صباحا …
في طريقي إلى الغاز استوقفني أحد معارفي:( يا استاذ عليكم الله اكتبوا لينا عن ناس المخابز ديل، الليلة ما في فرن شغال…)… قلتُ لصاحبي وقد أبديتُ قلة حيلتي : لا أقول لك إلا كما قال بامكار، ورحتُ احكي له طرفة بامكار مع المواطنين بالمحطة الوسطى…
وقبل ان يمسح دموعه من الضحك حكيتُّ له قصة عباس الملاكم “ود الجزيرة ” الذي تلقى ضربه قاضية من غريمه في الحلبة، فانكفى على وجهه مغشيا عليه، ومشجعوه من خلفه: يلا يا عباس قوم وارفع راس الجزيرة فرد عليهم:( أنا راسي قادر ارفعو لما ارفع راس الجزيرة..!!)..فتفهم صاحبي حالة الاحباط التي بدت علي، ثم تركني وانصرف، صحيح هناك احباط عام من تهاون الحكومة مع المتلاعبين بقوت الشعب، ومن ضعف هيبة الدولة، لكن بالمقابل هناك اشراقات (البل) الذي دخل أمس عش الدبابير واستخرج (اعفن) ملف وهو ملف الاراضي…
أما رحلتي الفاشلة دوما في البحث عن الغاز والتي بدأت من السادسة تماما وحتى الواحدة ظهرا، فكانت والله آلام ومعاناة جماعية طفتُ فيها الميادين المعلنة وغير المعلنة، فلم أقبض الا الريح..
أخيرا وبعد بحث مضني وجدتُ أمةً من الناس نساءً ورجالا وشيباً وشباباً من الصنفين مرابطين في منطقة الكدرو غرب المستشفى الأكاديمي البيطري، وقد جلبوا اسطواناتهم من كلِ جنسِ… سألتُ احدهم:الغاز ح يتم توزيعو هنا؟ أجاب ..(لا ابدا يا اخوي المواطنين من امس المغرب شغالين يوقفوا دفارات الغاز بالقوة بس ، لأنو كان قالو لينا في الميادين وانتظرناهم ما جابوها، بعد كدى الواحد يقلع حقو قلع بس…)..
انتظرت معهم قلت في نفسي كدي الليلة نجرب القلع مع الناس، و(اندفست) وسط اهلي الغبش، لعلي اجد ضالتي فرأيتهم يقطعون الشارع أمام كل دفار غاز ويجبرونه على التوقف ويطلبون منه النزول من الشارع لاستبدال اسطواناتهم بالسعر المعلن إذ كان يحمل اسطوانات معبأة والا تركوه ليمضي الى حال سبيله بعد التأكد….
بعض الشاحنات المعبأة بالغاز تقوم بتغيير مسارها لتفادي التوقيف والتفتيش، فتتم ملاحقتها من قبل المواطنين واجبارها على البيع…
لكن ومع كل تلك الثورة ثمة ملاحظ استوقفتني وهي ان المواطنين بالرغم من موجة الغضب التي تبدو عليهم وحالة الهياج التي تلفهم الا أنهم كانوا اكثر حرصا على تنظيم انفسهم وحفظ النظام فيما بينهم باحترام الاسبقية والصفوف، وكذلك الحرص على دفع الثمن اولا، ثمة امر آخر لفت نظري أنه لا وجود لمظاهر الدولة فلا رجال شرطة ولا غيرهم ولا حتى لجان المقامة وقد كنت اسأل عنهم بشدة ولا احد يجيب، لا مظاهر للحظر حتى بعد الواحدة ظهرا ولا اكتراث له، والزحمة تحت الهجير تلوي ذراع كل المخاطر الحقيقية لفايروس كرونا الذي لم يفكر به احد اصلا ، فهناك لاتفكير الا في الغاز و لا اكتراث ولا اهتمام الا بالدفارات القادمة من المصفاة…
هناك اعتقاد جازم وسط المواطنين الذين تجاذبتُ معهم اطراف الحديث بأن أغلبية وكلاء الغاز كيزان وهم من يعرقلون تعبئته وانسيابه من المصفاة إلى ميادين التوزيع، والبعض يتحدث عن سماسرة وتجار ووكلاء يستولون على الغاز ويقومون ببيعة بواقع ألف جنيه للاسطوانة ..وأخيراً بعد ان اخذ مني التعب كل مأخذ وجدت نفسي أردد بيت الشعر الذي لا اتذكر قائله:
لايعر الشوق الا من يكابده
ولا الصبابة الا من يعانيها ولايسهر الليل الا من به الم
ولا تحرق النار الا رِجل واطيها..اللهم هذا قسمي فيما أملك..
ضع نفسك دائما في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق انه يراك في كل حين.

اترك رد