واو الجماعة…عوض أحمدان
في بحور الحياة متلاطمة الأمواج وتعقيداتها التي أحاطت بالأعناق، مازالت تتوالي علينا الفواجع والآلام، وتتفجر شلالات الأحزان بعنفوانها الشديد، لتغرق مساحات الفرح في نفوس أحالتها الى قفر وجدب ويباب.
في هذه المرة لا أدري ماذا أقول؟ وكيف أكتب، والحروف صرعى، والعبارات ترتجف، هزها الخطب، وعظم عليها المصاب، ليتها تستطيع التعبير ولو يسيراً، عن مساحات اللوعة التي توغلت في دواخل النفوس، لتمسح كل شيء، بعد ان ذاع الخبر الصادم وعم القرى والحضر، برحيل، الأخ العزيز، عبد المنعم وداعة أبو سوار، الذي طالته سهام المنايا، التي لا تخيب أهدافها، مضى من بيننا بأعجل ما يكون، دون ألم يحس، أو من علة يشكو، انتزعه الموت، في فجائية مبكية، من بين (العيلة) وأفرادها الذين كانوا حوله مجتمعين، مضى سريعاً الى ربه، كالطيف العابر والنسمة الباردة والبرق الخاطف، لتبقى من بعده، روائع السيرة وتفاصيل المسيرة التي صنعها وحده، بأدبه الجم، وخلقه القويم، وسلوكة الرفيع، وعلاقاته الممتدة، التي فرضت حبه، وأجبرت الآخرين على احترامه، من أولئك الذين جمعتهم به دروب الحياة المتشعبة.
الراحل عبده وداعة أبو سوار (يرحمه الله)، تجسد فيه الإخلاص في أسمى معانيه، صوناً للود، وحفظاً للعشرة، وعنواناً للتسامح، ومثالاً للأصالة، اتسمت حياته كلها، بجملة من المزايا والخصال السمحة، اجتمعت كلها فيه، وبارحت من غير عودة دنيا الآخرين.
في مسارات الحياة المتعرجة، نحن أبناء جيل واحد، (أولاد حفرة) كما يقولون، عشنا شطراً كبيراً من العمر، في (بيوت) كان بابها واحداً تجمعنا قوة الشباب وزهو السنوا ونضارة الأيام ونداوة الحياة، بيسرها المعروف، قبل ان تتشابك خيوطها، في زمان الناس العجيب هذا، كنا تماماً كما تفوه شاعر الحقيبة أبو صلاح، (روح واحدة في جسدين)، (يربطنا حبل ويقطعنا سيف)، كنت وقتها طالباً في ثانوية محمد حسين، أقيم مع (أخوالي)، الخليفة أحمد علي العمرابي وابن عمه و (عديله) النور طه العمرابي، عليهما الرحمة، كان منزلهما بحي المظاهر يجاور منزل المرحومين محمد أبو سوار وشقيقه وداعة، (الحيطة بالحيطة)، بحكم سنوات العمر، كان عبده وداعة، الأقرب لي، علاقة وصداقة، في برامج الفسحة والنزهة والترفيه والدراسة، ندخل السينما ونشاهد (الكورة) ونلعب (الدافوري) ونقرأ الصحف ونستلف الكتب من مكتبة أم درمان المركزية، وفي الأمسيات تقودنا الخطوات ناحية حي المسالمة العريق، لتناول (صحن) الفول(المدنكل) في دكان، (خاله) المرحوم برعي موسى الماحي، أيام كان (طلب) الفول بدراهم قروش معدودات، كنا (شلة) من الشباب، تحيطنا في حياتنا سقوف عالية من التطلع والطموحات، كان عبده وداعة (يرحمه الله)، أرجحنا عقلاً، وأوسعنا فكراً، وأمضانا رأياً، وأبعدنا نظراً، وأكثرنا تفاؤلاً، وأقوانا حجة، وأصدقنا عزيمة، وأصلبنا شكيمة، وأولنا سبقاً، وأفضلنا صلة، وأوفرنا حظاً، يفوقنا رغبة ودراية، ودليلي على ما ذكرت، ها هو ينبري ليتقدم صفوف الموت سابقاً لنا، حتى في لحظات الرحيل عن (أم بناياً قش)، ليرتقي الى عوالم الله، التي لا ترتقي إليها الأباطيل، عشمنا في الله كبير ان يكون فقيدنا في عوالي الفراديس، يسمع بإذنيه (أطيط) عرش الرحمن.
يوم السبت قبل الماضي كتبت مقالاً في صحيفة (الإنتباهة)، أنعي فيه رحيل الأخ عوض عبد الرحمن باشري الذي شق نعية على الكثيرين، منهم عبده وداعة الذي ظللت سحابات الحزن وجهه الصبوح، ذكرت في مقالي ذلك أخي عبده وداعة أبو سوار، وبعد ساعات من ظهور المقال كان (عبده) مرتحلاً الى جوار ربه، تربص به حمام الموت، وكانت لحظتها أكفانه تنسج في ظهر الغيب ونحن لا ندري، فالموت محمول على أكتافنا، يتبعنا كما الظل، ويمضي معنا أينما ذهبنا، إدراكاً لا مناص منه، حتى لو كنا في بروج عالية، أو حصون مشيدة، طبقاً لأقدار الله المكتوبة.
بعد رحيل عبده وداعة، كانت الأحزان وستظل وحدها سيدة الساحة، ملأت البيوت، وسكنت النفوس، وذهبت بالأفكار، وطاشت بالألباب التي أصابها الذهول، من هول الفاجعة ومرارة الرحيل، في ذلك اليوم تعانق الرجال وسالت الدموع، وأخضلت اللحى، وتعالت الأصوات، وعبرت الأسافير، ونعق (البوم) في (بيت العزابة)، بعد رحيل زائره، وسكوت كناره، وطيران بلبله، وغياب ريحانته، فقد كان الراحل يضفي على مجالسه، السرور وألوان المرح.
الحديث عن عبده وداعة، حديث ذو شجون، لا نعرف بدايته، ولا أين تكون النهاية، فصول طويلة ومشاهد عديدة ظللها الراحل بالشهامة والإريحية والكرم الذي التصق باسمه وبيته التصاقاً، والعزاء نسوقه عبر هذه الحروف المرتجفة الى عموم أهله السواراب، والعمراب، وآل موسى الماحي، والى أصدقائه وأصهاره وأبناء أوسلي أجمعين، موصولاً الى أرملته الصابرة (نعمات)، والى أبنائه محمد وملاذ وصفاء والإعلامية عفراء أبو سوار التي كان الراحل يوصينا بها خيراً، قبل أن تصبح (نجمة) تجود بعطائها على أثير الإذاعات، ولأخوته زكي ومنصور ومحاسن وداعة، وإن كان من تعزية خاصة فهي لإخينا عبد الواحد باشري، فقد كان للراحل بمثابة هارون من موسى، يشد من أزره ويشركه في أمره ويسند عليه ظهره، وأرآه الآن والبقية يتوكأون على عصا قوية من الصبر الحليم، ليهشوا بها على جحافل الأحزان.
في هذا المقام الذي تطاولت فيه مساحات الفراق، أخاطب الغائب الحاضر، لكنه على غير عادته، هذه المرة لا يجيب، ولسان حالي له يقول:
(عبده) أخوي فد يوم ما سمعنا منك شينة
وما بتعادي إنسان أو تمسك عليه غبينة
صاحب المكرمات أخلاقك تملي حسينة
ماني شاعر يجيد الحروف عليك ويزينه..
بس مشاعري لي زولاً طبايعه رزينة…
يرحمك الآله في الجنة يوهب عليك نعيمه…
أخوانك وراك يا (عبده) ربي ديمة يعينه…
ليك الرحمة يا مطر البخات والعينة….
<
p style=”text-align: justify;”>
اللهم ارحمه واعف عنه وعافه، واجعل روحه الطاهرة في حواصل طير خضر تمرح في واسع الجنات، وسلام عليك يا رفيق الصبا في الخالدين.
عوض أحمدان