اخبار السودان لحظة بلحظة

بحثاً عن لقمة العيش أطفال يكافحون من أجل البقاء على وجه البسيطة

بملامحهم المرهقة يواصلون تنقيبهم من قمامة إلى أخرى، بحثاً عن رزق في تلالها، تاركين أهواء الطفولة وراء معاناة الفقر، التي جعلتهم أصدقاء لمملكة النفايات والشمس معاً، فقط من أجل أحلامهم البسيطة لقمة عيش تسد الجوع أو تلبية رغبات عجزت أسرهم من توفيرها.. فلا الشمس الحارقة تقصي خطواتهم للوراء ولا معاناة التجوال وقطع المسافات البعيدة تمنعهم من ممارسة مهنة محفوفة بالمخاطر، وهم على سطح الزجاج المكسور وغيره من النفايات غير الآمنة.. الرحلة معهم حتى المكب وهم يرون قصص كفاحهم من أجل البقاء عبر هذا التحقيق :

كارو الأحلام!!
مع طلوع الشمس وبعد أن يرتشف كوب الشاي الصباحي، يحزم الطفل (ابراهيم) أغراضه ويبدأ في تجهيز عربة (الكارو) وينتظره رفقاء المهنة، والحماس يزيدهم نشاطاً لبدء يوم جديد في تلال القمامة.. (إبراهيم) ذلك الصبي الوسيم الطلة الذي لم يتجاوز عمره (12) عاماً ترك له والده مسؤولية أسرته وكأنه تركها لفتى بلغ أشده وليس لصبي غض الجسد والإهاب، هو أكبر إخوته ترك الدراسة بسبب ظروف الأسرة المادية، وكله أمل أن يعود إلى الدراسة حسب وعد والده الذي سافر خارج العاصمة بحثاً عن تأمين قوت لصغاره، تاركاً خلفه سنده البكر في إعالة الأسرة الصغيرة من عربة (الكارو).. يخرج (إبراهيم) صباحاً كل يوم قادماً من أطراف محلية كرري أمدرمان إلى وسطها وعلى متن عربته مجموعة من الباحثين، تتشابه ظروفهم لدرجة تظن أنهم من بيت واحد، ولكنها المعاناة وحدها التى خلقت ذلك الشبه.

تحدثت إليه ورأسه مصوباً على أرض (الكوشة) يتفحص بنظراته المكان بدقة عله يجد شيئاً، وبخبرته في المجال صار متخصصاً في جمع الزجاجات الفارغة وهي أغلى ثمناً من القارورات البلاستيكية. البحث عن زجاج فيه نوع من الصعوبة لأن معظمه يكون غير صالح للبيع، ورغم ذلك تجده مثابراً في العمل دون يأس وبقية مجموعته تنتشر بحثاً عن (الخرد) وكل فرد منهم يحمل على ظهره (شوال بلاستيك)، وبعد يوم حافل بالمشقة والتعب يعود (إبراهيم) مع مجموعته على ذات العربة الـ (كارو) ويتحصل منهم على أجرة اليوم البالغ قدرها (10) جنيهات.

أطفال آباء
آدم الطفل ذو الـ (13) عاماً، غاب والده عنهم بحثاً عن الرزق ولكن طالت رحلة بحثه التي امتدت لعامين.. لم يكن أمام الصغير خيار سوى مساعدة والدته في أعباء الأسرة، بما يتحصل عليه من جمع (الخرد)، حيث ينطلق صباحاً مع (إبراهيم) بعربة (الكارو)، عقب انتهاء عامه الدراسي بنجاح يعد تفوقاً نسبة لظروفه والمعاناة التى يعيشها من أجل لقمة العيش.
والدته تكابد في رحلة ذهاب تبدأها صباحاً لسوق أمدرمان للعمل في بيع الشاي، الطفل وأمه يحاولان سد فراغ الأب وهو يجمع من عمله في اليوم حوالي (30 ـ40) جنيهاً يدخر منها مبلغاً بسيطاً لشراء ملابس.
هم صغار وجدوا أنفسهم في محك المسؤولية مثل الآباء تماماً، يتحملون وذر غيابهم.. (إبراهيم وآدم) مثلهم تماماً في معركة الحياة اليومية في أكوام النفايات الطفل (أشرف) الذي غاب عنه والده حوالي العام، تحملت أمه مسؤولية الصغار بعملها في داخلية بنات، ولكن ما تتحصل عليه ليس كافياً، لذا ولج عالم النفايات، وما يجنيه من مال يشتري به حليب لأخيه الصغير وحلوى لأخواته حينها يشعر بالفرح عندما يرى الابتسامة على شفائهما الصغيرة، رغم أنه في أحيان كثيرة يعود للمنزل ولا يجد ما يأكله.

معادلة صعبة
هي الحياة بمعادلتها الصعبة جعلت من هم في عمر الطفولة يكونون آباءً، يرعون أسرهم بما تيسر من عمل يعرض حياتهم للخطر، ويدفن طفولتهم تحت القمامة.. الملابس الرثة التى يرتدونها والشعر الأشعث المغبر والعيون شبه الدامعة تجسد كل ملامح التشرد ولكن ما أن تعيش نبض حياتهم اليومي من المنزل إلى مكب النفايات ثم محل بيع الخرد حتى تشعر بمأساة كبيرة داخل قلوب صغيرة وبريئة، لأطفال يجمع بينهم قاسم مشترك هو غياب آبائهم.

عندما يدور قرص الشمس نحو المغيب يكون (إبراهيم) ومجموعته قد أنهوا عملهم وتحصلوا على جنيهات ثمن بيع الخرد، وعلى ذات الطريقة التى أتوا بها يعودون مع (إبراهيم) بعد دفع الـ (10) جنيهات له ثمن الأجرة المتفق عليها.

مخاطر نفسية
طفولة في مكب نفايات ماذا تخبئ لها الظروف وأي خطر نفسي يحيط بها؟ الدكتور نصر الدين أحمد إدريس رئيس قسم علم النفس بجامعة إفريقيا العالمية تحدث إلينا في الموضوع قائلاً: النظر لهذه الفئة يحتاج لرؤية شاملة حتى نستطيع أن نفهم طبيعة الظاهرة الجانب الاقتصادي هو المدخل الأساسي لأن الدافع الحقيقي للخروج للعمل هو الكسب لهؤلاء، ومن خلال الملاحظات بشكل عام سألنا الجميع من حيث السكن والوضع الاقتصادي، إنهم يصنفون من فئة معينة.

أما فيما يتعلق بعمل الطفل يرى نصر الدين أن الثقافة السودانية تشير عادة إلى أن الأطفال في فترة العطلات يساعدون أسرهم سوى أن كان في الحقل أو غيره وهذا يكسب الطفل بدايات لتحمل المسؤولية، هذه القراءة لا تنفصل عن ذات القيم القديمة مقارنة بعمل هؤلاء (تدوير النفايات) إلا من خلال شيء واحد وهو طبيعة العمل في هذه المهنة المشقة والإرهاق والتعرض للمخاطر من الأمراض والمسافات والنقل وغيره في مقابل عائد مادي قليل لا يكاد يفي بشيء، ولكن هي الفرص المتاحة، أمر آخر يجب الإشارة إليه وهو طبيعة هؤلاء الأطفال لأن جزءاً كبيراً منهم يلتحق بالعملية التعليمية وهذا يؤثر على تحصيلهم الدراسي واستمراريتهم في التعليم خاصة وأن الأطفال إذا ما تكسبوا مالاً يكونون في حالة مقارنة مع استمرارية المال والتعليم وخيارهم في أغلب الأحيان يكون على حساب التعليم.
هناك جانب لا بد من الإشارة إليه وهو الضغوط النفسية التي تنشأ من خلال هذه المهنة.. فالأطفال لم تتكون لديهم (بنية نفسية) متكاملة مما يؤثر ذلك على عدم تحملهم للضغوط النفسية وبالتالي يمكن أن يؤثر ذلك على تكوين نفسية الطفل مستقبلاً، وجزئية أخرى طبيعة هذه المهنة تعرض الأطفال للاصطدام بأشخاص ليسوا بقدر المسؤولية تجاه التعامل مع الأطفال وأحياناً يكونون منحرفين وهذا ما يفسر انتشار كثير من السلوكيات مثل تعاطي (المخدرات) وغيرها، الأمر الذى يعرضهم للضياع .. في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة تستحق أن تدرس علمياً حتى يتم تشخيصها بشكل دقيق فمن خلال المعلومات البسيطة لا نستطيع أن نصنفهم بأنهم أشخاص غير مقبولين لأن جزءاً كبيراً منهم يكون فاقد الأب أو لديه مشكلة أسرية، وأيضاً منهم من يتعامل بمسؤولية كبيرة جداً وهو أن يتولى إعالة أسرته، لذلك نحتاج لدراسة حتى نوفر المعلومات اللأزمة لجهة الاختصاص وتستطيع أن تقدم ما يفيد وينفع في إطار المسؤولية العامة.

اغتيال البراءة
وتثور الاسئلة هنا, من المسؤول عن اغتيال براءة هؤلاء الأطفال وتحميلهم مسؤولية فوق أعمارهم وفوق طاقتهم ؟!هل هم آباؤهم الهاربون من واجباتهم أم أمهاتهم اللائي وجدن أنفسهن في وجه العاصفة بعد هروب الأزواج فحملن هؤلاء الأطفال زغب الحواصل وأشركنهم جزءاً من المسؤولية الكبيرة التي قصمت ظهرهن ؟!أم هو المجتمع والمسؤولون الذين تخلوا عن واجباتهم تجاه هؤلاء الأطفال ؛وكان يجب أن يبقى هؤلاء العصافير وطيور الجنة في صفوف الدراسة وبين أحضان أمهاتهم يرضعون صافياً (حليب الحب) كما قال شاعر الشعب الراحل محجوب شريف ؟!
أم هي مسؤولية كل أفراد المجتمع ونحن ننظر باستعلاء واحتقار لهؤلاء الأطفال الأبرياء وكأنهم ليسوا بشراً ومجرد كلاب ضالة وحيوانات معدية وجرباء نتأفف من أن تلمس أطرافهم أجسادنا وثيابنا ؛متناسين أنهم أطفال السودان وجيل المستقبل وربما كان أو يكون أطفالنا في موضعهم يوماً ما إذا جارت عليهم ظروف الحياة القاسية ووطأتهم الدنيا بكلكلها وداستهم بحوافرها ومنسمها ؛وهم ضحايا لا حول لهم ولا قوة!؟
عموماً مهما كانت الإجابة ومن هو المسؤول؛ فإن هؤلاء الأطفال الأبرياء ضاعوا وأغتيلت طفولتهم وبراءتهم تحت مكبات النفايات فمن ينقذهم!؟

 

الخرطوم : بهاء الدين قمرالدين

صحيفة ( اليوم التالى )

اترك رد