بقلم : حماد حمد محمد
تحرير من حرَّر والجمع تحارير. والتحرير يعني الانعتاق والتخليص والإطلاق من الأسر. ولها معانٍ أخرى، كتحرير الشيك وتحرير المادة الصحافية وغيرها.
ونحن هنا، بصدد الحديث عن التحرير بمعنى الانعتاق ونيل الحرية والتخلُّص من أسر الاستعمار البغيض. الأسبوع الماضي، وتحديداً يوم الأحد 26 يناير، حلت علينا ذكرى تحرير مدينة الخرطوم، والتي بذلك التاريخ، تكون قد مرت عليها مائة وتسعة وتسعون سنة، حيث تم دحر المستعمر الإنجليزي، الذي جثم على صدرها (64) عاماً.
ورغم أن هذه الذكرى من الأهمية بمكان، إلا أننا نجدها قد طويت في ذاكرة النسيان، وتكاد لا تُذكر إلا لماماً، أما جيل بلادي الحديث، فقطعاً لا يعرف عنها شيئاً، هذا إذا لم يكن قد سمع بها أصلاً.
فبعد أن قرر الإمام محمد أحمد المهدي فتح الخرطوم، تقاطرت الحشود وتدافعت الرايات نحوها، تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم.. حيث أحكم أنصار الشيخ العبيد ود بدر الذي عينه الإمام المهدي أميراً، حصارها من جهة شرق النيل الأزرق، فسار ورفيق دربه المجاهد المضوي عبد الرحمن، وتحت قيادة الفارس إبراهيم ود بدر دمرت حامية الحلفاية الحصينة وفر قادتها. أما الأمير عبد القادر ود أم مريوم واتباعه، فنزلوا في مواجهة المدينة من جهة النيل الأبيض، والتي تولي قيادتها الأمير محمد الطيب البصير. وتقدم الأمير محمد الأمين ود أم حقين من جهة الشمال الغربي. وجمع الأمير أحمد أبو ضفيرة فرسان الجموعية والفتيحاب، وحاصروا المدينة من جنوبها. أما قيادة القوات المحاصِرة الآنفة الذكر، فقد عقد المهدي لوائها لأمير البرين والبحرين أبي قرجة الذي شرع في تشديد قبضة الحصار وتقدم بقوته الرئيسة في سلسلة من الوقائع تقرِّبه من المدينة تارة، وتبعده تارة أخرى، ثم تبدل الحال وانقلبت موازين القوى على غير موعد وترتيب، فقد فرغ أسد المهدية وأشجع فرسانها الأمير عبد الرحمن النجومي من حرب الدائر فقدم في قوة كبيرة تربو على الأربعة آلاف مقاتل، فانتدبه المهدي أميراً عاماً على المحاصِرين، فالتقى بأبي قرجة وزحفا سوياً نحو الخرطوم، وعند أسوارها كتب لغردون: (أعلم أنني ود النجومي أمير أمراء جيوش المهدية الملقب بسيف الله المسلول وفاتح كردفان والدائر، وقد جئتك بجيوش لا طاقة لك بها ومدافع لا قدرة لك على احتمالها. فسلِّم تسلم، ولا تسفك دماء العسكر والأهليين بعنادك والسلام ).
ولكن هل استجاب غردون للنداء؟ كلا، بل تمادى في غَيِّه، وتحصَّن في قصره، فكان الهجوم على الخرطوم من الجيوش المهدية من الجبهات كافة، ودارت رحى الحرب، فقتل في المعركة نحو 24 ألف من سكان الخرطوم، وثمانية آلاف من جنود الإنجليز المدافعين عن المدينة، وتمكن المقاتل الجسور مرسال (حمودة) من إطلاق رصاصة من بندقيته على غردون وهو يقف على سلم يؤدي الى سطح القصر فسقط قتيلاً متدرجاً بدمائه. وكان مقتل الجنرال تشارلز جورج غردون، نبأ غير سهل الوقع على الإنجليز، حيث كانوا ينظرون للرجل على أنه “أسطورة حية”، حيث لم يعرف في حياته كجنرال سوى الانتصارات المتتالية. وكان لسقوط الخرطوم ومقتل غردون دوي كبير في مصر وفي العالم، إذ كان إيذاناً بانحلال الحكم المصري على السودان، وعلو شأن المهدي في السودان، والذي أنهت ثورته المهدية حقبة الحكم التركي التي استمرت منذ العام 1821، وحتى سقوطها في العام 1885م، حيث مثلت معركة تحرير الخرطوم، إحدى أهم أحداث ذلك القرن من الزمان. فشرارة الثورة التي انطلقت تزلزل الأرض،موحدة الشعب السوداني من شماله لجنوبه وغربه تحت راية المهدية،والمؤرخون يعتبرون أن هذه الثورة هي اللبنة الأولى لبناء الدولة السودانية الحديثة.
وخزة أخيرة
حينما نتحدث عن تحرير الخرطوم، فقد حررها الإمام المهدي من المستعمر، وتركها لنا خرطوماً مضرباً للمَثَل، والمُثُل في الأخلاق والنظافة، حيث يُمنع دخول سوقها لأي شخص، إلا وهو إما بزي شعبي كامل جلباب وعُمامة، أو زي أفرنجي منتظم، ويُمنع لبس (السفنجة والشباشب المنزلية) إثناء التجوال داخل السوق.
أما نظافتها، فكانت شوارعها تُغسل بالصابون وتُطهر بالديتول. ومن نظافتها كتب رئيس تحرير جريدة (الأهرام) المصرية في ذلك الزمان، (اذا كنت تريد أن تمشي في شوارع الخرطوم، ماعليك إلا أن تخلع نعليك وتمشي فيها حافي القدمين). وذلك تعبير بليغ عن نظافتها في ذاك الزمان. وأيضاً قال حكيم العرب الشيخ «زايد بن سلطان» مؤسس دولة الإمارات عندما طلب من «كمال حمزة» الذي عيَّنه مديراً لبلدية دبي، قال له: (أبقى دبي زي الخرطوم). وأين نحن الآن وأين دبي؟!!!
أما اليوم، فحدِّث ولا حرج!! كمية أكوام القاذورات وبرك المياه الآسنة، والحفر والمناظر القميئة، التي تخلو من منظر جمالي واحد، حيث لا تعرف ثقافة الزهور والتنجيل والديكور، بل حتى التنظيم الهندسي.
فهل نحن فعلاً تحررنا من سواد الضمائر والمصلحة الشخصية حتى على حساب الوطن وبنيه؟!..
هي مجرد صرخة في (وادي الذئاب)!!..
The post ذكرى تحرير الخرطوم.. في الميزان!! appeared first on الانتباهة أون لاين.