تحقيق: صديق رمضان
رغم صغر سنه إلا أن أسعد بات خبيراً في تجارة العملة، فهو يعرف خباياها وأسراراها. كنت كلما سعيت لإجراء تحقيق استقصائي عن هذه التجارة غير المشروعة لجأت إليه، هذه المرة وعلى غير العادة وجدته محبطاً وزاهداً في الحديث، تعجبت من هذا الأمر واستفسرته عن التغيير الذي طرأ عليه، جاءت إجابته مفاجئة وغير متوقعة حينما قال بحسرة :»شاركت في الثورة وكنت من الناس الصابنها في ميدان الاعتصام، وصدقني يعتصرني الألم مما أشاهده في سوق العملات الحرة، للأسف في هذا العالم الغريب لا يوجد من يهتم بالسودان أو يكترث بدماء الشهداء، كل «زول» يبحث عن الربح السريع حتى لو حرقت البلد ومات المواطنون جوعاً، وأكثر ما يغضبني وجود أجانب يضاربون في العملة الحرة .
أكثر من سبب
لم أشاء مقاطعته فقد شعرت بأن ابن الخمسة وعشرين عاماً صادق فيما يقول، فقد تغيرت ملامح وجهه واكتساها الحزن، فقط طلبت منه أن نجلس بالقرب من بائعة شاي شمال الجامع الكبير بوسط السوق العربي، وحينما جلسنا واصل حديث الحسرة قائلاً: انا اعمل في هذا المجال منذ خمسة اعوام، نعم كنت على قناعة تامة انها تجارة غير شرعية لان من يمارسها يلحق الضرر بالاقتصاد القومي كما انه لا يسهم ولو بفلس واحد في الناتج القومي عبر الضرائب وغيرها من رسوم، ولكن ظروف اسرتي ودراستي الجامعية فرضت علي ذلك حينها، بيد ان مشاركتي في الثورة غيرت الكثير من مفاهيمي ،واصبحت انظر الى الاشياء بمنظار مختلف كلياً، وما يحدث حالياً في سوق العملة الحرة امر مؤسف الى ابعد الحدود، اؤكد لك ان الكثير من الممارسات السالبة التي تضر بالاقتصاد تحدث تحت سمع وبصر القوات الامنية والحكومة الانتقالية، ولكن لا يوجد من يحرك ساكناً لوضع حد لهذه المهازل التي جعلت الدولار دون سبب «يقوم من كم ستين ويقترب من المائة جنيه».
ماهي الأسباب ؟
حينما سألته عن السر الذي يكمن وراء الارتفاع المتواصل والغريب لسعر الدولار في السوق السوداء، لم يرد فاخرج هاتفه وطلب من احدهم الحضور ويدعى هاشم، في البداية لم يشأ الحديث غير ان اسعد اخبره بانني صديقه وليس «هوا» اي بمعنى نظامي، فقال له «سبب ارتفاع الدولار شنو «؟، وبعد ان شعر هاشم بالاطمئنان قال :الاسباب كثيرة ابرزها الشركات التي تطلب يومياً كميات كبيرة من الدولار ،وتأتي على رأسها شركات الادوية التي لديها تجار تتعامل معهم وغالباً فان الطلبية الواحدة لا تقل عن المائة او الخمسين الف دولار، بالامس طلب منا «الجوكي» الذي نعمل معه ان نبذل قصارى جهدنا ونحن خمسة عشر من الشباب لشراء اكبر كمية من الدولار والريال السعودي، وبعد ان استلمنا العملة السودانية فئة الخمسمائة جنيه سألت احد الزملاء عن السبب وراء منح كل واحد منا مبلغاً يقترب من المائة الف جنيه فقال ان شركة دواء طلبت من «المعلم» مائتي الف دولار اليوم والمبلغ الذي معه لا يتجاوز السبعين الفاً، قال هاشم ان شركة الدواء ومصانع المنتجات الغذائية من المتعاملين الاساسيين بسوق الدولار وان هذه الجهات تشتري كميات كبيرة.
شركات اتصالات وغيرها
ويعود اسعد للحديث وهو يشير الى ان ارتفاع الدولار من حاجز الستين جنيهاً الذي ظل ثابتاً عليه لاشهر ليس له مبرر منطقي، غير انه يُرجع احد اسباب ذلك الى اقبال احدى شركات الاتصالات على شراء الدولار، ويلفت الى انها تتعامل مع اكثر من تاجر وان المبالغ التي تشتريها في الشهر لا تقل عن الثلاثة ملايين دولار، مؤكداً ان هذا الامر معروف لكل المتعاملين في سوق العملة الحرة، وينوه ايضاً الى ان ثلاث شركات طيران عالمية لديها ايضاً تجار تتعامل معهم وتشتري كمية مقدرة من العملات الحرة خاصة في نهاية العام، ويفجر اسعد مفاجأة غريبة وهو يؤكد على ان عدداً من الشركات الحكومية ضالعة ايضاً في ارتفاع سعر الدولار، حيث تشتري كميات كبيرة منه ومن اليورو والدرهم بدعوى الحاجة اليها لشراء مدخلات انتاج، ويبدي اسعد دهشته من مسلك الشركات الحكومية التي رأى انها يجب ان تكون الاحرص على عدم التعامل في السوق السوداء للدولار.
«وجع قلب»
أثناء جلوسنا تلقى هاشم الذي يبدو من ملامح وجهه انه في العقد الثالث من عمره، مكالمة فقال للمتصل في الطرف الاخر «تعال نحنا قاعدين جمب ست الشاي «فلانة»، فحينما حضر كان ايضاً شاباً يبدو في العقد الثالث وبعد ان تعرف علي لم يتحفظ في الحديث وقال:»يا باشا البلد دي مقدودة ومافي زول قلبو عليها، نحنا مجرد سريحة نعمل من اجل توفير مصاريف لاهلنا لكن في تماسيح ما شغالين كتير بقصة سودان وثورة وكلام زي ده «، سألته عن اسباب ارتفاع الدولار مقابل الجنيه فباغتني بسؤال لم اتوقعه «هل تعلم ان سوق العملة الحرة شغالين فيهو برضو اجانب»، اجبته بالنفي، فواصل حديثه غير مكترث باجابتي: قبل اوضح ليك التفاصيل لا بد من الاشارة الى ان السودانيين وحينما عملوا في العملة الحرة في القاهرة تعرضوا لحملة شرسة من اجهزة الامن المصرية التي اعتقلت عدداً منهم واخضعتهم للمحاكمة بعد ان تعاملت معهم بحسم وحزم لان الامر كان يمثل لها امناً قومياً، ولكن للاسف هنا فان الاجانب يعملون في العملات الحرة دون رقيب وحسيب، في عمارة حراء التي نجلس بجوارها نعرف عدداً من الاجانب الذين يشترون الدولار بكميات كبيرة ويضاربون فيه .
مصريون وأردنيون وسوريون
مضى الشاب الذي عرفت ان اسمه عبدالرحيم في حديثه، مشيراً الى ان عدداً من اصحاب المصانع من الاجانب لديهم ايضاً تجار يتعاملون معهم، وذكر مستثمرين من دول عربية منها الاردن ومصر وسوريا، واضاف: بعضهم اتخذ العملة الحرة تجارة تدر عليه اموالاً طائلة ، وهؤلاء باتوا من الاساسيين في السوق ولم يسبق ان تعرضوا للتوقيف والاعتقال رغم انهم معروفون حتى للجهات الامنية وكذلك فان اصحاب المصانع من الاجانب لديهم تجار يتعاملون معهم لتوفير العملة الحرة بكميات كبيرة، ومن قبل وفرنا لصاحب مصنع مواد غذائية سوري مبلغ مائة الف دولار في ثلاثة ايام، ويلفت عبدالرحيم الى ان كمية العملة النقدية الاجنبية الموجودة في السوق كبيرة ،وهنا تدخل اسعد في الحديث وقال :نعم اتفق مع عبدالرحيم ان العملة الحرة في السودان حجمها كبير ومن قبل كنت استمع الى حديث كان يدور بين ثلاثة من كبار تجار العملة وقال احدهم ان العملة الحرة المتداولة في السوق السوداء لا تقل عن الاثنين مليار دولار، نعم قال هذا المبلغ حتى ان احدهم وكان جالساً معهم قال له ان المبلغ اكبر من ذلك بكثير وذكر له اسم احد التجار الكبار وقال ان «فلان براهو عندو نصف المبلغ القلتو «، ويؤكد اسعد الذي ظل يتحدث بحسرة ان البلاد تمتلك موارد ضخمة من العملة الاجنبية غير انه يتأسف على انها خارج الدورة المصرفية .
«الكيزان والهجوم»
الغريب في الامر انني وحينما سألتهم اثناء حديثهم عن اسرار وخفايا سوق الدولار عن اثر انصار النظام المباد في ارتفاع العملة الحرة، ضحك ثلاثتهم، وقال اسعد «ما ده الشي الحارقني ذاتو»، طلبت منهم مزيداً من الايضاح حتى لا يكون الحديث على عواهنه فقال هاشم : انا ليست لدي علاقة بالسياسة مثل اسعد ولكن الذي اعرفه ان السوق دخلها لاعبون جدد يمتلكون اموالاً باهظة، هل تعلم ان احدهم ضخ في يوم واحد قرابة العشرين مليون جنيه «مليار بالقديم» لشراء عملة حرة وتحديداً دولار ويورو، في السابق كنا نعرف حجم الكتلة المتداولة في السوق لان التجار المشتغلين في هذه المهنة لا يخاطرون بشراء كمية كبيرة من العملة الحرة مهما كانت الاسباب لأنهم يعرفون جيداً تقلبات السوق التي تتأثر بالقرارات الحكومية والسياسية، ما استطيع تأكيده ان عدداً من الكيزان دخلوا السوق بقوة لشراء العملة الاجنبية ولكن لا اعرف هل هدفهم احراج حكومة حمدوك ام التخلص من العملة المحلية، ولكن البعض يقول انهم يعملون على محاربة الحكومة برفع سعر الدولار، ويعود اسعد للحديث وينوه الى ان عمارة شهيرة تعود الى رجل اعمال توفاه الاجل ينشط فيها تجار بالانابة عن الكيزان في شراء العملة الحرة، ويعود الحزن مجدداً ليسيطر على اسعد الذي يؤكد ان الثورة تتعرض لحرب شرسة من الكيزان عبر بوابة العملة الحرة .
الأشباح
بعد ذلك تحركت نحو صرافة شهيرة بالقرب من صينية القندول، يتخذها تجار العملة مكاناً لعملهم وعلمت ان الصرافة تعتبر من الصرافات القلائل التي تمنح من يتم تحويل مال له من اوروبا وامريكا بالعملة الحرة على عكس عدد من الصرافات، وهناك التقيت احد الذين كنت اتعامل معهم حينما ابحث عن معلومة تتعلق بالعملة الحرة وبدوره لم يبخل علي بالمعلومات وقال ان الحملات التي تشنها السلطات الامنية والشرطية ليس لها تأثير، واردف: هذه التجارة مثلها والمخدرات فالرؤوس الكبيرة التي تعمل فيها مثل الاشباح لا يمكن القبض عليهم بدليل دامغ فهم يتعاملون عبر الهواتف في تحديد السعر والكميات المراد شراؤها، وحتى الذين تعرف السلطات انهم يعملون في هذه المهنة تجد صعوبة بالغة في الحصول على دليل لادانتهم، قلت له ان هذا يعني عدم جدوى الحملات الامنية فاجاب سريعاً : لا هي ذات جدوى لانها تسهم في اختفاء السريحة عن الاماكن المعروفة، ولكنهم ينتقلون الى اماكن اخرى مثل شارع النيل او موقف الاستاد واحياناً شارع الغابة، واعتقد ان هؤلاء ليسوا اس الازمة بل اولئك الذين يديرون سوق العملة من وراء حجاب، وحينما سألته عن الاجانب والكيزان قال ان كميات الاموال الضخمة التي ترد الى سوق العملة توضح ان شيئاً غير طبيعي يحدث، واضاف: انا اعمل في هذه المهنة منذ سنوات ولم يحدث ان شهد سوق العملة دخول كميات كبيرة من العملة السودانية مثلما هو حادث هذه الايام، وهذا يؤكد ان جهات او افراداً لم اهداف وراء ارتفاع سعر الدولار، ولا استبعد ضلوع الكيزان في هذا الامر لانهم يمكن ان يفعلوا اي شيء يوقع الضرر على حكومة حمدوك .
أكثر من متهم
خرجت من السوق العربي بعد جولة استمرت لاكثر من ست ساعات، ومثلما اعتصر الالم الشاب اسعد فقد سيطر علي تماماً فقد تذكرت الشهداء الذين بذلوا ارواحهم من اجل رؤية وطن عظيم، غير انه وكما بدا لي فان اخلاق الثورة لم تغش كثيرين من الذين يضاربون في العملة الحرة وان الذين لم يرق لهم التغيير ينشطون بضمائر خالية من الوطنية لوأد الثورة عبر بوابة الاقتصاد، يأتي ذلك وسط صمت غريب وسلبية اكثر غرابة من الحكومة الانتقالية التي وحتى الان فانها تكتفي بالفرجة على ما يحدث بسوق العملات الحرة.
The post المتحكمون في (الدولار)..هل هــم أشـــباح؟1 appeared first on الانتباهة او لاين.