ثورة ديسمبر استهدفت تغيير نظام تمكن من البلاد لمدة ثلاثين سنة غير خلالها العقلية العاملة في مؤسسات الدولة و حولها من مؤسسات قومية إلى مؤسسات خاصة خاضعة لسلطة الحركة الإسلامية و حزب المؤتمر الوطني ، و في المقابل بذل النظام الهدايا لكل من يخلص في الخضوع للحركة الإسلامية و لكل من يصفق لها ، و هذا أوجد طبقة واسعة من المنتفعين، الذين تعودوا على أن يكونوا في القمة ، يأمرون من هم دونهم فيطاعون، يسرقون من المال العام فلا يحاسبون، و يفسدون فتتم ترقيتهم.
طبقة النفعيين هذه موجودة في كل أقسام الدولة ، و بصورة أكثر حدة في الأجهزة الأمنية و الشرطية و الجيش . ما الذي يوحيه لك استمرار صرف ٧٠% من الموازنة العامة طيلة فترة الانقاذ على الأمن و الدفاع ؟ يوحي بأن النظام أراد حماية نفسه بطبقة من العسكريين و أجهزة الأمن، و لذلك فتح لهم الابواب بصرف بذخي تجاوز كل حدود المنطق ، هذا الصرف حول هذه المؤسسات من مؤسسات دولة مهنية مثلها مثل سائر المؤسسات إلى امبراطوريات ضخمة تتمتع بالنفوذ المالي و القوة الاقتصادية و السياسية و قوة المعلومات ، و أصبح الترقي داخل هذه المؤسسات مع الخضوع و الولاء للحركة الاسلامية و الحزب الحاكم يعني الانتفاع بإمتيازات شخصية مالية و اجتماعية بلا حدود .
ما الذي فعلته ثورة ديسمبر ؟ قطعت الحبل الذي يغذي هذه الطبقة . و بالتالي فإن الطبيعي أن تكون لهذه الطبقة ردة فعل ، فالحرمان من سلطات و منافع و امتيازات بهذا الحجم لا يمكن تحمله بسهولة ، و من هنا بدأت تظهر علامات ضعف اداء الاجهزة الشرطية و الامنية و العسكرية و تأخر إستجابتها للأزمات و العمل على إظهار الدولة ( المدنية ) بالضعف و الهشاشة في نظر الجماهير ، و ظهر ذلك في صور متعددة مثل ظهور احداث مدبرة و مقصودة لا تخطئها العيون كحوادث الاعتداء على الأطباء في المستشفيات و جرهم للإضراب عن العمل ، حوداث الاعتداء على المواطنين في الطرقات العامة بواسطة العصابات المتجولة، اختفاء المواطنين، ظهور جهاز الأمن علنا للدفاع عن عناصره التي حكم عليها بالاعدام في مقتل الشهيد احمد الخير ، أحداث الجنينة و الخ ، و سوف تستمر هذه الطبقة المنتفعة في اظهار علامات الرفض لهذا الواقع الجديد الذي بدأ يسحب منها كل امتيازاتها السابقة .
التعامل مع هذه الظاهرة يبدأ من الاعتراف بها ، و اتباع احدي وسيلتين ، الوسيلة الاولى هي الحوار المباشر بين قيادة الثورة و هذه المؤسسات ، و إطلاعهم بأن الوضع الجديد ليس الا استعادة لقومية الدولة التي في ظلها يحق للجميع العمل و التوظيف و الترقي بناءا على الكفاءة و التأهيل ، و ان هذه الثورة ضرورية من أجل نهوض هذا البلد من الحضيض و انطلاقه نحو القمة ، و أن الفائدة ستكون لكم كما لغيركم و ستتمتع جميع الأجيال القادمة بوطن يلبي طموحاتها . هذه الوسيلة ستكون أقرب إلى المساومة بأن يؤمنوا بمباديء ثورة ديسمبر و بشعبهم و مستقبله و من ثم العمل بكل تجرد محتفظين بمواقعهم السابقة او التنحي من تلقاء أنفسهم مع التكريم و التقدير اللازم .
الوسيلة الثانية هي الحسم فورا عبر إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية و الشرطية و العسكرية ، و على رأس ذلك إعادة هيكلة جهازي الأمن و الشرطة من القمة إلى القاعدة .
الوثيقة الدستورية نصت على أن إصلاح المؤسسات العسكرية يسند إلى المؤسسات العسكرية ، و هذا الأمر يبدو موضوعيا إذ كان هناك ايمان بقومية هذه المؤسسات ، و لكن في ظل الوضع الراهن فإن المؤسسة العسكرية تطغى عليها الأدلجة و تسيطر على قمتها القيادات الإسلامية و ما تسريب حديث رئيس هيئة الاركان هشام عبدالمطلب و اعترافه بانه اسلامي ببعيد . و في ذلك فإن مجلس الأمن و الدفاع هو الجهة التي يجب ان تتحرك و تراقب هذا الإصلاح، حيث انه يضم بجانب الوزارات العسكرية كامل مجلس السيادة و رئيس الوزراء و وزير العدل و النائب العام و وزير الخارجية و وزير المالية . غض الطرف عن حقيقة أدلة الأجهزة العسكرية و الشرطية و الامنية هو غض للطرف عن وجود مهدد حقيقي للفترة الانتقالية و هو موقف لا يمكن وصفه الا بالغباء .
الإصلاح لا يعني دوما الإقصاء او الفصل من الوظيفة و إنما يعني إعادة تعريف طبيعة الدولة الجديدة في عقول هذه الأجهزة ، المستجيب يواصل العمل ضمن المنظومة مع مواصلة إصلاحه، و الرافض للإصلاح و التغيير مكانه الخروج من المواقع الحساسة . الثورة يجب أن يكون لها أنياب و مخالب و لا يجب ان تتصف باللطف و اللين .
sondy25@gmail.com