
الشجرة المعمره في مدينة بورصه التركية .. عمرها اكثر من ٦١٠ سنه
العالم دقاش
كنت قبل اسبوعين في زيارة الى اسطنبول في تركيا. وساقني اهتمامي بتاريخ الحضارة الاسلامية إلى الحرص على زيارة بعض معالمها التاريخية عن طريق برامج سياحية مرتبه لذلك.
كانت أولى هذه الزيارات رحلة طويلة إلى مدينة بورصه عاصمة الدولة العثمانية في نشأتها الأولى على يد مؤسسها عثمان ارطغرل في القرن الثالث عشر. ت
بعد مدينة بورصه التاريخية نحو ساعة ونصف الساعة بالبصات السياحية من وسط مدينة اسطنبول، وما لفت انتباهي في بورضه شجرة ضخمة تسمى المُعمرة، إذ يقال إن عمرها بلغ أكثر من ستمئة وعشرة سنه. تلا ذلك في اليوم التالي زيارات إلى متحف طوبقابي سراي، حيث مستودع الكنوز الإسلامية التي تعود إلى عهد رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
هنا توجد خزائن بها مقتنيات متنوعة من سيوف ودروع وتعريف بأصحابها المجاهدين من صحابة رسولنا الحبيب. فهي تنقلك إلى عهد الرسالة الأول، فتعيش في حالة من الرهبة والخشوع، وأنت تشاهد هذه الكنوز التي حفظت بعناية فائقة وعرض جميل لإيصال رسالة صامته للزوار الذين تمتلئ بهم قاعات العرض.
بعدها طفت في رحلة بحرية لساعتين عبر البسفور وشطآنه الأوربية والآسيوية، وكان مرشد المجموعة يقوم بالشرح من وقت لآخر في محطات هي قصور وسراي وقلاع مطلة على البحر بناها السلاطين العثمانيون فتأخذك بجمالها وفخامتها التي تعكس عظمة السلاطين، وحياتهم الباذخة.
لقد ظلت هذه القصور تحتفظ بفخامتها على الرغم من مرور عدة قرون عليها، وتعرضها للحرائق والزلازل في حقب مختلفة. إن مظاهر الترف في حياة السلاطين وقصورهم الفخمة تفسر لك لماذا كان حكام الولايات العثمانية المختلفة يعاملون الرعايا بقسوة وشدة في جمع الضرائب والإتاوات.. بالتأكيد كان ذلك لتغطية مصروفات السلطان العثماني، وحياته المترفة، وبناء سرايا وقصور الباب العالي.
نعم الجبابرة وحدهم هم الذين يبنون الحضارات والأمجاد، حتى لو كان ذلك على حساب محكوميهم وسخرتهم. لقد كان سلاطين الدولة العثمانية يمسكون ويديرون شؤون إمبراطوريتهم بالحديد والنار. وكثيراً ما كانت الخلافات داخل العائلة السلطانية تحسم بدموية مفرطة. فكم قطعت رؤوس وسالت دماء لتثبيت سلطان أو خلعة. بل أخذوا منافسيهم في الإمبراطوريات المجاورة بالشدة والقوة التي استعدوا لها ببناء الأربطة والجيوش الجرارة وأساطيلهم التي جابت بحار اوروبا.
تركيا هي مستودع نفائس الحضارات اليهودية والمسيحية وأخيراً الإسلامية، وما يبهرك هو تعايش هذه المكونات الثقافية والفنية في تسامح عبر الزمان. فلم يُهدم معبد يهودي أو كنيسة أو دير مسيحي أو مسلة تاريخية بناها الغزاة، وسجلوا عليها تفاصيل الأحداث، بل بقيت كما هي واليوم تعد من أهم معالم الجذب السياحي.كل هذا التنوع الذي تراكم عبر السنين أوجد ثقافة قبول الآخر والتعايش مع الواقع حتى في العصر الإسلامي كامل السيادة على الارض والسكان.
وظل هذا التعايش والتسامح بين المسجد والكنيسة إلى أن تم تحويل الموقع إلى متحف في عهد اتاتورك.
نعم كان هناك صراع وحملات من قبل الصليبيين لاستعادة سيطرتهم على المنطقة، وكان يرد عليها المسلمون بعنف، بل ملاحقتهم الى داخل اوربا. لكن رغم هذا الصراع العنيف إلا أنهم كانوا يتجنبون حرق أو تدمير المقدسات ومؤسساتها القائمة سواء كانت مسيحية أم يهودية.
إن ثقافة التسامح والتعايش في تركيا ذات جذور ضاربة في القدم انعكست حتى حكامها في العصر الحديث. وأمام أعيننا حكومة أردوغان ذات التوجه الإسلامي التي تسابق الزمن للعودة إلى قيادة العالم الإسلامي. ورغم برنامجها الإسلامي المطروح لكن يبدو أنهم بعملون بفقه متسامح، ربما بني على مضمون الآيات الكريمة وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 99) وكذلك ما جاء في الآية الكريمة فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية : 21-22) بمعنى أن عدم إيمان بعض البشر وارد، وبمعنى أن البشر ليسوا معنيين بمحاسبتهم، أو معاقبتهم، بل لهم رب يحاسبهم.
نعم هذه ليست علمانية اتاتورك ولا علمانية الغرب، وإنما هو فهم إسلامي توافقت معه الحداثة والعلمانية، وأخذت به تركيا الإسلامية. فأنت في تركيا تجد الإسلام يتعايش جنباً الى جنب مع مستجدات الحداثة. فمساجد تركيا التاريخية الفخمة تسعدك بعلو أصوات المؤذنين في الأوقات الخمسة، وهي قائمة تؤدي وظيفنها وسط ضجيج وصخب المدنية والحداثة التي تجلب معها كثير من المتناقضات، والسوءآت.
المسرح والسينما والملاهي الليلية وحانات شرب الخمر وغيرها مفتوحة لقاصديها، وربما في أماكن قريبة جداً من المساجد دون منعها أو اغلاقها، لكن مع ضبط الشارع وعدم الإخلال بالنظام العام، مما أوجد حالة من الاستقرار الاجتماعي و السياسي، وأتاح الفرصة للحكومة لتسيير دولاب الحكم بسلاسة وانسياب، ونقل التكنولوجيا من الغرب، ومضي عمليات التصنع االثقيل والخفيف، وتصاعد الإنتاج النوعي والكمي في تركيا؛ مما رفع من مدخولاتها، وجعلها تنافس اوربا في السوق التجاري في كل المجالات دون الاخلال بمبادئهم الأسلامية، وهذا نموذج للاسلام السياسي جدير بالدراسة.