ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحيا
الشاعر والمسرحي السعودي صالح زمانان، مؤخرًا، أمسية شعرية خاصة في العاصمة
السودانية الخرطوم، تحت عنوان “الوطن ليس في جيب البنطال”، بتنظيمٍ من
اتحاد الكتّاب السودانيين، ومنتدى مشافهة النص الشعري، وذلك ضمن فعاليات معرض
الخرطوم الدولي للكتاب 2019، الذي اختتم في 29 أكتوبر الماضي.
وأدار
الأمسية التي أقيمت بمقر اتحاد الكتّاب السودانيين، الشاعر والصحافي السوداني حاتم
الكناني، الذي عرّف بصالح زمانان كصوتٍ من أهم الأصوات الشابة في قصيدة النثر
بمنطقة الخليج العربي، وكصاحب تجربة حديثة وعميقة في التأليف المسرحي، حيث استطاع
أن يصطنع بين هذين الفنين جسرًا يمكن لمن يقرأه أنْ يلحظه ويعبر عليه، فيجد الشعر بجملته
القاضية وصورته المشعّة في مسرحيات زمانان، ويجد المسرح بحركاته وتحوّلاته وبغتته
في تجربته الشعريّة.
وقرأ
صالح زمانان عددًا من النصوص التي نُشرت في مجموعاته الشعريّة الثلاث “عائدٌ
من أبيه”، و”رأسه في الفجيعة.. أصابعه في الضحك”، و”أعطال
الظهيرة”، كما قرأ 4 قصائد لم تنشر بعد، ويتوقع أن تكون ضمن مجموعة جديدة
سيصدرها خلال العام القادم 2020م.
وافتتحت
القراءة بالنص الطويل المعنون بـ “الوطن ليس في جيب البنطال” الذي جعله
الشاعر عنوانًا للأمسية، وتلاه نص “كما لو أنه راح لشراء الهدايا”، ثم
“وصية الجد الميت”، و”عيد الميلاد”، و”إلى صديقٍ لم
ألتقه بعد”، و”لست على ما يرام”، و”العزلة”، وكذلك نص
“أحزان المياه” الذي يقول فيه:
كلما
نظرتُ لنافورةٍ
شعرتُ
بالغُصَّة
مسكينٌ
هذا الماء
أبديُّ الملل!
لكنّي
أشعر بالاختناق
كلما
نظرتُ إلى الوادي
مسكينٌ
هذا النهُ
وُلد
مستلقياً على ظهرِهِ
وبعد
رحلتِهِ الطويلة
سيفجعه
الملح !
كما
طلب الجمهور من زمانان قراءة نصوص بعينها، كان منها قصيدة “ما أتعسكم أيها
الجنود”، وقصيدة “لستُ على ما يرام”، وقصيدة القطارات الشهيرة
التي
يقول في آخر مقطعٍ منها:
كلما
سمعتُ القطارات
صممتُ
آذاني
صوتها
لا يُزعجني
لكن
أولئك الذين انتحروا أمامها
ما
زالوا يصرخون!
وتخلل
الأمسية حوار بين الجمهور وبين صالح زمانان، كعنصرٍ رئيس من عناصر أمسيات منتدى
مشافهة النص الشعري، فكانت أغلب أسئلة الحضور حول مفاهيم القصيدة الحديثة في
العالم العربي، وأهم الأسماء والتجارب التي أثّرت على ذائقته وشعريته، وكذلك ملامح
التجربة الشعريّة في السعودية والآثار التي خلّفها صِدام الصحوة العنيف بالحداثة،
وأخيرًا سئل زمانان حول جدوى رؤية المملكة 2030 بالنسبة له كمثقف وشاعر ومسرحي،
التي وصفها من ناحيته باجتياح النور، والاشراقة الكبرى التي سيتعجب الآخرين من
نتاجها على مستويات الثقافة والفنون والآداب، مبيّنًا أن الحالة الثقافية
والإبداعية في السعودية جديرة بالاحترام والتميّز، بسبب عمقها من طرف، وكثافتها من
طرف ثانٍ، والمرجعيات الحضارية الضاربة في جزيرة العرب التي تمثل المملكة أكثرها
من طرف ثالث، وستكون المنصّات القادرة على ترويج وايصال تلك الحالات ضمن مبادرات رؤية
المملكة 2030، والتي بدأت بتفعيل العديد منها وأصبحت قيد العمل والتشغيل. ويمكن
توسيع الرأي هنا بالقول أن تعويل السعوديين بشكل أساس على تحديث الرؤية الشامل
الذي يشبر كل مفاصل الدولة والمجتمع والمؤسسات، والذي نتوقع أن يكون سبباً في
ترقية البلاد لمنزلة أكثر صلابة وحداثة، وتعدّد الحقول الاقتصادية، ورفع جودة
الحياة، وهذه كلها تنعكس على المجتمع والفرد، مما يبشّر بمرحلة متقدمة من الثقافة،
وصناعة ممرات جديدة للفنون والآداب التي تعبّر عن أفكارنا وشعورنا كأجيال عربية،
كما تُعيد تقديم حضارتنا العظيمة التي لا يزال أكثرها بِكرًا على العرض الإبداعي
والتعبير الجمالي.
وعلى
غير عادة الأمسيات الشعريّة، قام وزير الثقافة السوداني فيصل محمد صالح بتقديم
الشاعر والمسرحي السعودي صالح زمانان للجمهور السوداني قبل موعد الأمسية بيومين، وذلك
من خلال كلمته التي ألقاها في افتتاح معرض الخرطوم الدولي للكتاب 2019، مُرحبًا به
بشكل خاص، ومؤكدًا على تقدير مشاركته من قبل المثقفين السودانيين ووزارة الثقافة
والمؤسسات المدنية الثقافية والأدبية بالخرطوم؛ بوصف مشاركة زمانان تمثّل الحضور
العربي في أمسيات وندوات المعرض الذي يأتي كأول نسخة بعد ثورة الشعب السوداني، رغم
أنها الدورة الـ 15 في تاريخ المعرض.
من
جهته، أكّد الشاعر صالح زمانان أنّ هذه الأمسية واحدة من أكثر مشاركاته قُربًا إلى
قلبه، باعتبار السودان واحدة من أهمّ مكامن البهاء الشعري العربي على ضفتيه
الباهرتين، الكتابة والتذوّق، وعلى فترتيه الماضية والمعاصرة، مشيرًا إلى امتنانه
الكبير للدعوة التي جاءت لتتوّج امنياته وأحلامه في زيارة السودان منذ سنوات
طويلة، فرغم أنّ هذا البلد العميق مدعاة للقصد في ذاته على حد قوله، إلاّ أنّ
هنالك إلحاحًا خاصًا في أعماق النفس، يشتهي قياس المسافة والشّبه بين الأرض
ومنبوتها. يشتهي رؤية الأرض التي أطلَعتْ الشخصية السودانية الساحرة، التي أينما
كنّا وجدناها على مقربة القلب والروح، وكيفما جفاها الوقت والحظ، لا تتنازل عن
تحنانها، وسلامها، ومودّتها المجانيّة، وكرمها الصاعد من دماء الفطرة والسلالة.
وختم زمانان بقوله: “لديّ الكثير من
الأصدقاء في الخرطوم الذين ما وجدّتُ أرحب منهم، ولا أعصى على الضيق والملل من
حضرتهم، الذين تأكدّت بهم ومعهم من شيء لم أبحه لهم كيلا تُحرج أرواحهم الأبيّة،
لكنّي سأقوله اليوم. إنّ من يذهب للسودان كي يقرأ كتاباته لأهلها، سيجد الاصغاء
المهيب، ذلك الذي تربض خلفه قطعان اللغة الصائدة والمخيّلات المُحلّقة، وقد يعود
من عندهم بثقة المُمْتَحن، أو بأحمال ريبتهِ الفاتكة بما كتب. لكنّ الذي يذهب
لبلاد السودانيين كي يقرأ لروحه وميلاده تلك الكتابة الباهرة في يومياتهم الطيّبة،
وأعينهم وطباعهم، ولغتهم، تلك الكتابة التي يتركها بريق فتاة بحيّهم المتعثّر،
مَنْ يقرأ تلكم لروحه فسوف يعود من السودان خفيفًا من الشِعر، مثقلاً
بالقصيدة.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحق:
من
النصوص التي طلبها الجمهور السوداني من الشاعر صالح زمانان قصيدة “لستُ على
ما يرام”، وتفاجأ الشاعر وبعض الجمهور، من ترديد مقاطع القصيدة من قبل بعض
الشباب والشابات، حيث كانوا يحفظون نصوص الشاعر، ولكن قد يتبدد العجب حين نعرف
أنهم أتوا من مناطق خارج الخرطوم، وتحملوا مشقة الطريق والسفر، غير عابئين بالعودة
المتأخرة، أو بتعثر المواصلات. وهذا ما يحيل إلى الأمل الكبير في أجيال الثورة
الشباب، ومدى ثقافتهم واطلاعهم على التجارب الإبداعية داخل السودان وخارجها،
وبذائقة رفيعة تتجانس مع الزمن والحداثة والنص المعاصر والجديد.
هنا
نص “لستُ على ما يرام” للشاعر صالح زمانان:
لستُ
على ما يرامُ
ساعتي
لها عقاربُ ميتةٌ
وسِوَرَاها
جلدُ ثعبانٍ
معطفي.. كان تمساحاً
وجلدُ زوجتِهِ حذائي
وقبيلةٌ من دودة القزِّ
ماتت
وهيَ تصنعُ ما تبقى من ثيابي
هذا
البابُ.. وهذا السريرُ
هما
ما تبقى من شجرةِ بلوطٍ
وجدران
غرفتي الموحِشَة
مِصْلَبةُ
الحصى والرمالِ
..
لستُ على ما يرام
أنا
مقبرة القتلى!