اخبار السودان اليوم

يوسف كوة : عُد أيها المثقف والمناضل فمازالت الجبال في حاجة إليك

مبارك أردول

الثوار تظل قضيتهم وحضورهم متقدين إلى أزمان بعيدة، يوسف كوة الذي استجبنا لندائه من أجل التحرير، لا يزال صوته يصدح عبر الأثير.

قد يقول قائل وكيف لك أن تستجيب لنداء شخص لم تلتقيه، سيكون ردي حاضراً حينها بأنه طالما المبشرين مازالوا يدعون العالمين لاعتناق الأديان واتباع الرسل، وطالما الأجراس والمآذن مشيدة قروناً من الزمان، فإن دعوة يوسف كوة التي وجهها في منتصف الثمانينات مازالت قائمة، ومازال صداها في الأفق، سيما أنها لم يمر عليها سوى بضعة عقود، لم تزل طرية، وبل ستظل قائمة طالما القضايا التي ثار من أجلها ما زالت حاضرة، وطالما موازين الحكم والعدالة والمساواة مازالت مختلة، وريثما يُحترم الآخر ويكون له حق المقام كآخر فإن الدعوة ستظل قائمة لأن بضاعة يوسف كوة لا تعرف الكساد.

حديثي عن القائد المعلم المثقف والمقاتل يوسف كوة لن يبارح الزاوية التي ظللت أنظر إليه بها وأقارنه بزملائه وأقرانه، فقد حول النضال من أطره الضيقة والتقليدية في جبال النوبة والتي كانت لا تبارح محطات الروابط الجهوية والقبلية وفي أفضل الأحوال إلى حركة احتجاجية ومطلبية، قد حولها إلى حركة سياسية فاعلة تساهم في رسم مسار العملية السياسية في كل البلاد.

في وقت كانت القضايا حاضرة وملحة تنتظر الإجابات وفي ظل وجود الكادر والجماهير المتعطشة للتضحية استطاع الرفيق يوسف كوة توجيه المناضلين إلى الوجهة الصحيحة، فالحركة السياسية في جبال النوبة ومكاسب الجماهير والطبقة المقهورة لن يضرها الانفتاح، أكثر مما يفعل بها التقزيم والأقلمة (جعلها في حدود إقليم جبال النوبة)، و لولا قيادة يوسف لعملية الانفتاح تلك بنفسه لانتهت همة شباب الكمولو المتعطشين للتضحية بين حدود الإقليم ولشابهم التقسيم والتجزئة.

نحتاج اليوم إلى يوسف (الآخر) الذي سيمسك بيد الجميع رغم تبايناتهم بروح الأب والزعيم الحقيقي الذي لن يخيفه الاختلاف ولا يخشي من الآخر، يعدل الاعوجاج والتوهان والتلاشي الذي دب في فريقه، فيوسف كان معلماً وأديباً وقائداً وسياسياً فريداً.

قد صقلته تجربة العمل في بدايات عمره في وسط قطاع الطلبة، حيث أعجب حينها بالاشتراكية الافريقية (لمعلمو) جوليوس ناريري، رأى فيه وفي برنامجه السياسي (اويجما) مخرجاً للنفق الذي أدخلتنا إليه الكولونيالية وبرنامجها الرأسمالي، قد انتمى إلى مدرسة دارالسلام و حتماً إلى ولتر رودني ورواد مدرسة التبعية الآخرين، دكتور سمير أمين واندريا غندر فرانك وبول سويزي وبول باران وغيرهم ممن نظروا عن الاختلالات التنموية والفوارق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتبادل الغير متكافئ بين دول الشمال العالمي والجنوب العالمي وكذلك إمتصاص فائض القيمة، وبطريقة أخرى رفض سطوة دول المركز العالمي وفرض تأثيرها وسلطانها على دول الهامش والأطراف.

إستطاع القائد يوسف أن يقفز فوق أسوار الفوارق التي صنعت لتفريق المواطنين السودانيين، فلم يكن يفرق بين سكان الجبال بين من ينتمون إلى شرقه او غربه شماله أو جنوبه، بل لم يكن ينظر إلى ذاك مسلماً أو هذا مسيحياً، ولم تستهوه هذه الهويات المتعددة، وضرب المهمشين بالمهمشين، وغير ذلك أنه كان ينظر إلى السودانيين عموماً كطبقتين، طبقة مستبدة قاهرة مسيطرة على موارد ومصادر المال وعلى مفاصل القرار في المركز، وطبقة أخرى مضطهدة مهمشة تعيش في الأطراف وعلى الفتات، مقهورة سياسياً وتمارس عليها أجهزة الدولة كل تشريعات العنف والقهر والاستبداد ليحافظوا على استمرارية الاختلالات والحصول على الامتيازات. إختار يوسف الانحياز للأخيرة ضد الأولى مهما كلفه ذلك من ثمن، وظل على المبدأ دون أن يتزحزح إلى أن رحل.

لم يكن القائد يوسف خلافياً او متحجراً في المواقف دون البحث عن نقاط الالتقاء حتى مع ألد خصومه، وبذلك استطاع أن يغرس روح التضحية في القضايا العامة في نفس رفاقه ومن قادهم من أبناء الجبال، ففي عهده قاد الآلاف من هؤلاء الشباب المعارك في الاستوائية بأقسامها الثلاث شرقها ووسطها وغربها ودفن الآلاف من الشهداء هناك، وكذلك في بحر الغزال وأعالي النيل وكل جبهات القتال حينها، وإن كان يرى البعض (ممن لم يصلوا عمق تفكيره حتى اليوم) أن ذلك كان استخداماً لأبناء الجبال، إلا أن الحقيقة تقول إنه نفس النظام الذي كان يقاتل محمد جمعة وجبريل كرنبة وجقود مكوار في تلشي وكذلك تلفون كوكو وسايمون كالو وإزيكيال كوكو في البرام وجلاب ونيرون فيليب في أم دورين وعزت كوكو في كتلا (وغيرها من المعارك في الجبال) هو نفسه الذي ستقاتله في الاستوائية وبحر الغزال وأعالي النيل والنيل الأزرق، وبل هو نفسه الذي يقاتل ضده عبود أندراوس في شرق كادقلي وكوكو إدريس وكارلو تريلا في أبو كرشولا وغيرها من المعارك المتعددة التي قدم فيها الرفاق تضحيات وإن لم يسع المقام لذكرهم.

وبرغم من أنه أول من دعى المناضلين في جبال النوبة للإلتحاق بالحركة الشعبية وبرنامج السودان الجديد ورفع شأن قضيتهم الا أنه لم يدعى او يدعو يوما بأن يكون المرجعية الاولى والاخيرة لقضيتهم، لم يسعى للمجد الشخصي وتركيز السلطات في يده، وفق أي دستور كان او لم يكن، شاور رفاقه وكون لهم مجلسا لذلك،لم يسفه او يخون مخالفيه و لم يفرقهم، إن تفريق المهمشين وتقسيمهم لن يخدم سوى المركز ولن يعطل إلا عجلة النضال ويؤجل ساعة النصر.

تحتاج الحركة السياسية في جبال النوبة اليوم إلى إنعاش ونفخ لروح يوسف كوة فيها، حتى تساهم بوضوح وفاعلية، وحتى تأمن المكاسب التي ضحى من أجلها الآلاف وتكون ضمن أجندة التغيير، فالنظام في أضعف حالاته وقد سقط، ولم يتبقى له سوى عملية تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية، حيث فقد كل الحيل التي ظل يتسربل بها من أجل البقاء.

سنظل ملتزمين بالنضال من أجل تحقيق القضايا التي دعى اليها القائد يوسف كوة، وإن عملية تقويم الأمور ووضعها في نصابها الصحيح ضرورة حتمية لا يجب ان نتردد فيها، بل مسؤولية تظل معلقة في رقابنا و ستسألنا عنها كل الأجيال الحالية والقادمة.

أرقد بسلام أيها القائد فسنكمل المشوار

Exit mobile version