اخبار السودان اليوم

وجهة نظر قانونية حول سلمية الثورة وميكافيلية أعدائها

أطلعت على بعض الآراء، كما استمعت إلى تسجيل
متداول في مواقع التواصل لسيدة تدعى منى بدري مقيمة في واشنطن تطعن في مشروعية التظاهر
السلمي.

راعني ما سمعته على لسان هذه السيدة، وهي تحاول
جاهدة إثبات عدم مشروعية وقانونية هذا الحق، في الوقت ذاته الذي تشير فيها إلى مشاركتها
في مسيرة السودانيين في واشنطن.

 تؤكد
السيدة في بداية حديثها اهتمامها بالمسائل القانونية، وحبها للقانون، بشكل يوحي أن
هذا هو مجال تخصصها، بخاصة أنها كانت تتحدث بثقة كبيرة، وهي تستدل بقوانين حقوق
الإنسان ودستور السودان الانتقالي.

هذا الأمر ضلل كثيرين ممن استمعوا إليها،
وظنوا أنها قانونية متخصصة، وهذا ما جعلهم يذيلون تسجيلها بعبارة: (استمعوا لهذا
الرأي للقانونية المتخصصة منى بدري من واشنطن)، والواضح من طريقة حديثها أنها هدفت
إلى هذه النتيجة.

جاء حديثها مستفزاً للشباب المتظاهرين، مع ضعف
في الاستدلال والتحليل، وما توصلت إليه من نتائج، يجعل كل من له صلة بالقانون لا
يشك لحظة بأن مثل هذا الهراء لا يمكن أن يصدر عن قانوني على أعتاب المهنة ملتزم
بآدابها.

هذا الأمر جعلني أحرص على معرفة من تكون هذه
المُدعية، فجاءني الخبر اليقين بأنها طبيبة، وعضوة في المؤتمر الوطني، ولا صلة لها
بالقانون، فانكشف القناع بأنها لا تعدو أن تكون قاصية عن زملاء مهنتها الأطباء
الذين يشكلون طليعة الثورة مع الشباب في موقف وطني وبطولي، فلا عجب أن تختار
البقاء في السفينة الغارقة مع رصفائها من المنتمين لفكر التقية والميكافيلية، ممارسة
لجميع أساليب المكر والتدليس والخداع.

ولمعلومية القراء ممن لم تتح لهم فرصة
الاستماع إليها ألخص مرافعتها حول عدم شرعية التظاهر السلمي في الآتي:

هذه الأسباب التي طرحتها السيدة منى، وهي
تتحدث بنبرة الواثق حول عدم قانونية ومشروعية التظاهرات السلمية تهزم نفسها بما
تحمله من تناقضات داخلها، وهذا أمر لا يستحق الوقوف عنده، فالقارئ الحصيف قادر
وكفيل بمعرفة ضعف الحديث، ونوايا من أطلقتها. ما يهمنا الآن هو تبصير القراء بقوة
شرعية ودستورية التظاهرات السلمية التي تحدث في السودان.

إن حق التظاهر السلمي من الحقوق الطبيعية
التي لا تحدها حدود، وترجع إلى إنسانية الانسان، وهو من مظاهر الممارسة الحقيقية
لحرية الفكر والعقيدة والتعبير في المجتمعات، فيسمح بالتقاء مجموعات من البشر للتعبير
عن مطالبهم المشروعة بأسلوب منظم ومرتب، وتكون السلطات ملزمة برعاية التظاهرات
السلمية وحمايتها، وتمكينها من التعبير عن أهدافها ومراميها.

إن حق التجمع السلمي من الحقوق التي لا
يجوز تقييدها، باستثناء القيود الخاصة بالتدابير الضرورية لصيانة الأمن القومي،
والسلامة العامة، وحماية الصحة العامة والآداب، مثل: الدعاية للحرب، والدعوة إلى الكراهية
والعنف أو العنصرية الدينية، ويكون ذلك في ظل المجتمعات الديمقراطية، هذا مع ضرورة
العلم بأن هذه القيود ليست مطلقة التقدير، وتقاس بمقاييس المجتمع الديمقراطي الذي
يحترم حرية الرأي والفكر والتعبير، وحق الإنسان في ممارسة ذلك كله منفرداً
ومجتمعاً وعلناً،  كما تخضع الدولة في هذا
الشأن لرقابة اللجنة المعنية بحقوق الإنسان المنبثقة من العهد الدولي للحقوق
السياسية والمدنية، سواء من خلال تقديم تقاريرها الدورية، أو ما يقدم من شكاوى
بواسطة الأفراد والجماعات ضد السلطة المعنية.

ولا شك في أن ممارسات الحكومات العسكرية والشمولية
الديكتاتورية التي تسطو بليل على حقوق الشعوب تسطو على حقها في حكم نفسها، وتحرمه
من حقوقه الأساسية بل تدعو وتشجع وتمارس كل ما يحظره الدستور والقانون من تعد على
الناس بتكميم الأفواه والسجن والسحل والقتل وانتهاك حرمات الناس، وهذا يجعل من
حقهم العمل على استرداد حقوقهم المسلوبة، وبالطرق السلمية، وهذا ما يمارس
السودانيون، وكان سبباً في اندلاع المظاهرات السلمية الرافضة للطغيان، والإقصاء،
والإذلال.

إن حق التظاهر السلمي من الحقوق التي كفلتها
جميع وثائق حقوق الانسان المحلية والإقليمية والدولية، إذ نص الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان الصادر في العاشر من ديسمبر 1948م صراحة على هذا الحق في المواد من
(1) الى (21) وهي تحدد الحقوق المدنية والسياسية الواجب الاعتراف بها لكل كائن
بشري.

لقد نص الإعلان على حرية الرأي والتعبير
التي يندرج تحتها حق التظاهر السلمي، وهي من الحقوق الثابتة للبشر التي لا تتغير
بتغير المكان أو الزمان أو شكل وطبيعة الحكم. كما أن المعهد الدولي الخاص بالحقوق
المدنية والسياسية الصادر في 1966م هدف الى تحويل ما جاء في الاعلان العالمي لحقوق
الانسان الى قواعد قانونية دولية عن طريق إبرام معاهدات تلزم بموجبها الدول التي
تصادق عليها بالالتزام بها وتطبيقها.

وفى القانون الدولي يشار إلى الحقوق
الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الجيل الأول من الحقوق
التي تعرف بالحقوق السلبية من باب عدم أحقية الدول التدخل في ممارستها وإنما تلتزم
بعدم تقييدها لتمارس كاملاً مع الالتزام بحمايتها حتى في الظروف الاستثنائية، ونجد
ذات الحقوق والميزات منصوصاً عليها في المادة (21) من المعاهدة الأوربية لحماية
حقوق الانسان التي أنشأت بموجبها المحكمة الأوربية لحقوق الانسان، وحذت حذوها دول
أمريكا في حماية هذه الحقوق.

أما دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 الباب
الثاني (وثيقة الحقوق) فقد جاء متماشياً مع العهود والمواثيق الدولية لتأكيد حق
التجمع السلمي، بالنص صراحة على هذا الحق في المادة (40) (1) منه حيث جاء فيه
(يُكفل الحق في التجمع السلمي، ولكل فرد الحق في حرية التنظيم مع آخرين بما في ذلك
الحق في تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية أو
الانضمام اليها حماية لمصالحه). هذا ولم يُكتف بذلك ولمزيد من تأكيد الالتزام بالحقوق
الواردة بالدستور نصت المادة (27) (3) على التزام الدولة بجميع الحقوق المنصوص
عليها في العهود والمواثيق الدولية إذ نصت على الآتي:

(تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في
الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الانسان المصادق عليها من قبل جمهورية
السودان جزءاً لا يتجزأ من هذه الوثيقة) أما الفقرة (4) من المادة (27) فجاءت
لتؤكد أن التشريعات تنظم الحقوق والحريات المضمنة في وثيقة الحقوق المضمنة في
الدستور، ولا تصادرها أو تنتقص منها بأي حال.

يبقى أن نقرّ في نهاية الأمر بشرعية
المواكب السلمية في السودان، والتزامها بمتطلبات الدستور الانتقالي لسنة 2005م،
والمواثيق والعهود الدولية، في الوقت الذي سقط فيه النظام في التزاماتها تجاه
مواطنيها والمجتمع الإقليمي والدولي بمصادرته الحقوق الأساسية، وفرضه الطوارئ
والتعدي بموجبها على المواطنين بدرجة تشكّل مخالفات دستورية وقانونية جسيمة تضاف
إلى رصيده في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية لتمثل رصيداً إضافياً من
الأدلة عند مساءلته أمام محكمة الجنايات الدولية المطلوب أمامها رئيس الدولة وعدد
من مساعديه.

Exit mobile version