خطوة تلو أخرى طفق رئيس الوزراء وزير المالية معتز موسى يصدر قراراته ضمن حزمة من السياسات التي تهدف لإنعاش الاقتصاد السوداني عبر إصلاحات هيكلية.. الخطوات المتسارعة لموسى جعلت البعض يشفق عليه من هول التكليف كحال البرلمانية بحزب المؤتمر الشعبي نوال الخضر التي قالت: “أشفق عليك أن تفقد شبابك داخل مطبخ قد أكل طعامه قطط سمان”.
إشارات نوال الخضر فهمت بأنها جزء من التلميحات لمجموعات هيمنت على قطاعات حيوية في الاقتصاد السوداني وانهكته لمصلحتها الشخصية فازدادت قوة بينما ازداد الاقتصاد ضعفاً، جاء موسى الذي يستند على نجاحات في ملفات سابقة بنهج جديد لرئاسة الوزارة والمالية، ليجد جهات مناهضة له.
مراكز القوى.. إفشال السياسات
الباحث والمحلل محمد الخير يرى أن موسى سيحارب على أرض متحركة وظروف غير عادية ستكون مسيرته في الفترة القادمة أسخن ما مر بتجربته السياسية كونها حافلة بصراعات قوية مستترة وواضحة مع مراكز قوى ومجموعات نافذة وقريبة من متخذي القرار وهي من تصعب مهمته. وفي تقديري أن نجاحه الأول في الملف الاقتصادي مهم جداً لأنه يمكن أن يذيب كل محاولات الكسر والإفشال ويسهل من التغيير الإيجابي.
المحلل الاقتصادي د. هيثم فتحي يقول إن شبكات مصالح تعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه لذلك تسعى لإجهاض أي قرار يضر بمصالحها، مضيفاً:”هذه المجموعات تمثل الدولة العميقة وأصحاب النفوذ ومراكز القوى التي تمثل أخطر معاول الهدم وأقوى حائط صد ضد التغيير”.
إغلاق منافذ
السياسات التقشفية والإصلاحية المتعلقة بخفض الإنفاق الحكومي ووقف التجنيب ظلت مطروحة في البرنامج الثلاثي والخماسي ولم تنفذ ووجدت مقاومة من مراكز القوى والمستفيدين من الوضع الاقتصادي الماثل لدرجة أخرجت جميع عرابي هذه السياسة والمطالبين بتنفيذها من كابينة القيادة السياسية والتنفيذية وأبرزهم وزير المالية الأسبق علي محمود ومحافظ بنك السودان الأسبق وأمين الأمانة الاقتصادية بالحزب الحاكم صابر محمد الحسن ووزير المالية السابق بدر الدين محمود ليتلقوا اللعنات مع كل اختناق اقتصادي.
والمدقق في حقيقة الأزمة الاقتصادية يلحظ أنها سياسية بامتياز وتمثل تداعياتها الاقتصادية الماثلة أعراضاً جانبية في ظل وجود اختلالات هيكلية، وتأتي الأزمة الحالية نتاج لعدد من الأسباب أولها عدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الكلي الناتج عن التوسع المستمر عبر الموازنة العامة للدولة في الإنفاق الحكومي التشغيلي غير الداعم للنمو، الذي زاد بأكثر من 100% منذ انفصال الجنوب وذهاب 75% من إنتاج النفط مع الجنوب إلى جانب الصرف خارج الموازنة على الجوانب العسكرية والأمنية، لا سيما وأن الحكومة لم تتكيف مع انفصال الجنوب بالشكل المطلوب.
العامل الثاني للأزمة يرتبط بالتراجع المتواصل لأداء القطاعات الحقيقية الرئيسية الزراعة والصناعة خلال الأعوام الثمانية الماضية، التي شهدت نمواً سلبياً بلغ متوسط معدله السنوي حوالى 3%، مما أدى إلى ظهور اختناقات هائلة في الإنتاج المحلي زادت من الاعتماد على الاستيراد، خاصة الغذائي، وقلصت من حجم الصادرات، ما أدى إلى المزيد من الطلب على النقد الأجنبي، وهذا قاد بدوره إلى تنامي عجز الميزان التجاري الذي ارتفع من 300 مليون دولار في عام 2011م، إلى نحو ستة مليارات في عام 2018.
الأخطاء موجودة، والعجز عن استثمار الفرص، وعدم الاستفادة من الإمكانات حقائق ماثلة لا تقبل الجدال، ومع ذلك فإن أكثر من مؤشر وشاهد يؤكد وجود أصابع مُلوّنة تشد الحبل شيئاً فشيئاً على العنق.
مافيا الاحتكار
مع افتتاح مقر لجنة التحقيقات في قضايا الفساد قبل شهور، تصاعد التساؤل حول طبيعة المتلاعبين بالاقتصاد الوطني والذين باتوا بحسب الحكومة يتحملون وزر تصاعد الأزمة الاقتصادية ومدى وجود جهات خارجية تستثمر في الأزمة، الرئيس البشير من جانبه أعلن صراحة أن حملة مكافحة الفساد ستطال كل من ثبت اتهامه بالفساد، وأن الحملة لن تتوقف حتى تحقق أهدافها.
وزير التجارة والصناعة موسى كرامة كشف في وقت سابق عن شبكتين من (17) شخصاً تتحكَّمان في أسعار الأسمنت والسكر، بالشراء من الشركات المُنتجة، ومن ثم التحكم في الأسعار والتلاعب عبر الورق. وتابع: “شبكة الأسمنت تتكون من أحد عشر شخصاً، وللأسف منهم سياسيون، وهم وراء زيادة طن الأسمنت من 3 آلاف إلى 7 آلاف، ويضعون التسعيرة من الخرطوم، ويبيعونه على الورق دون ترحيل الكميات إلى الخرطوم”.
وليس بعيداً عما سبق أشار نائب رئيس الوزراء ورئيس القطاع الاقتصادي بحكومة الوفاق الوطني السابق مبارك الفاضل إلى أن ثمة مؤامرة لتخريب الاقتصاد السوداني لإسقاط الحكومة بإحداث انهيار اقتصادي عبر استهداف العملة الوطنية، وخلق هلع واضطراب في السوق مما أدى إلى رفع التجار لسعر الدولار، ودفعت البعض للهجوم على البنوك لأخذ أموالهم والدولارات على أساس أن العملة الوطنية انهارت.
ولفت المهدي وقتها إلى أن المؤامرة انطلقت من داخل النظام واستخدمت أجهزته لتنفيذ الأهداف، مدللاً على حديثه بقوله: “لو أن المؤامرة كانت من خارج النظام لما استطاع من يقفون وراءها فعل شيء مثل تهريب الذهب”.
ما قاله مبارك الفاضل، عن وجود مؤامرة يحتاج إلى التأمل والتدبر، قبل الرفض والإنكار، وما لم يقله مبارك يستدعي البحث بأُنوف الكلاب البوليسية، من أين تأتي هذه الرائحة المريبة؟ ربما الحبل من طرفين، كُلٌّ يشدُّه في اتجاهٍ مع اختلاف الأجندة وتباين المُنطلقات، طرف داخلي له أجندةٌ ومرام، وآخر خارجي يرغب في الإخضاع والاتِّباع، وإذا لم يتحقَّق ذلك فالخنق هو الخيار.
شروط النجاح
وليس بعيداً عما سبق فإن القيادي في الحزب الحاكم عمار باشري أشار في وقتٍ سابق إلى أن أجهزة مخابرات دولية تعمل على استغلال الأزمة الاقتصادية وتفاقمها لخلق حالة من الخوف والهلع بين السودانيين، بما يحقق أهدافهم بالخروج عن النظام.
المحلل الاقتصادي د. هيثم فتحي يرى أن نجاح أي خطة تغيير لا بد لها من فريق عمل منسجم مقتنع بالتغيير وقبلها تفريق وتشتيت فرق الهدم وإحالتها للاستراحة الإجبارية، ويضيف أن اقتلاع جذور الفساد فى كافة مناحي الحياة سواء بتفعيل القوانين الحالية أو عبر تشريعات جديدة تتواكب مع الواقع بدلاً من النصوص القانونية الحالية لتدق طبول الحرب على الفساد المتوغل داخل المؤسسات الحكومية.
خلاصة الأمر أن رئيس الوزراء يواجه تركة مثقلة من الأزمات نتاج لسنوات من الأخطاء السياسية والإدارية لا سيما مع ما عرف بالتمكين الذي سمح بظهور مجموعات استفادت من سياسة التحرير الاقتصادي لتتضخم مصالحها وتنكمش قدرة الحكومة في المقابل ليكون التحدي الأساسي أمام موسى هو مواجهة هؤلاء السحرة في معركة مصيرية.
تقرير : محمد عبد العزيز
الخرطوم (صحيفة السوداني)