لم يكن لتجمع المهنيين السودانيين اي وجود سياسي، ولم يُعرف له أي نشاط سياسي قبيل اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي وصفها رئيس الجمهورية والقيادات السياسية البلاد في بداياتها بالمشروعية، بفعل الظروف الاقتصادية القاهرة وندرة اشياء ضرورية مثل المشتقات النفطية والسيولة وغيرها. ولكن الاحتجاجات التي بدأت في التاسع عشر من ديسمبر الماضي تحول مسارها بعد اسبوع بظهور تجمع المهنيين على سطح الاحداث وتبنيه لـحراك الشارع، في وقت عزفت فيه القوى السياسية عن الدخول في الحراك خشية من وقوعها في براكين المجهول، قبل ان تعدل بعض الاحزاب والتحالفات موقفها وتلحق بركب الحراك وتعلن تأييدها مثل قوى اليسار والامة، ومع مرور الوقت انحسرت تلك التظاهرات وقادت الى خلافات وتباين في الرؤى داخل جسم المهنيين، وايضاً مع القوى السياسية التي اعلنت التأييد.
تجمع المهنيين بدا للكثيرين على انه جسم غامض ودارت حوله عدة تساؤلات، ورغم شح المعلومات عنه الا انه برز كتجمع لقوى اليسار والمهنيين المعارضين للحكومة في مجالات مختلفة، وان كانت طغت عليه سيطرة الاطباء وكذلك المحامين وغيرهم، وفي بدايات الأمر رفض التجمع الاتهامات التي طالته بانه جسم ينفذ اجندة سياسية، وكان دائم الاشارة عبر ما يرشح عنه إلى انهم مجموعة من الشباب الساعين للتغيير وليست لديهم اية تنظيمات سياسية، ولكن مع مرور الايام بدأت قيادات تظهر في التجمع معظمها من التيارات اليسارية التي تعيش خارج البلاد وتعمل على شحن الشباب بضرورة التغيير، وذلك من خلال انتهاجهم وسائط حديثة اعتمد فيها على وسائط التواصل الاجتماعي وبطرق غير تقليدية، حيث خاطبوا الشباب بلغاتهم المختلفة وتطلعاتهم ونشر تورايخ وازمان تحركات مواكب التظاهرات. وبعد مرور شهر من الاحتجاجات التي اعاقت الكثير من مسارات المجتمع وافضت الى اغلاق الجامعات التي يهددها شبح تجميد عام دراسي كامل، بدأت موجات الاحتجاجات تنحسر بصورة بائنة، وهو ما افضى الى خلافات في اوساطه وانعدام ثقة بين المهنيين، خاصة ان موجات التعاطف قلت تجاههم، وذلك بعد الهجوم عليهم في وسائط التواصل الاجتماعي واتهامهم بتسييس المطالب الشعبية.
ويرى عدد كبير من الإسلاميين ان المهنيين اختطفوا حراك الشارع الذي كان في بداياته بسبب تفاقم الازمات الاقتصادية، وتم تحويلها الى لغة كراهية حادة تجاه الاسلاميين وتحريض الشباب عليهم وصولاً الى شعارهم (تسقط بس) الذي أبرز بصورة بائنة انهم يرفضون لغة الحوار رغم استعداد الحكومة للحوار والوصول الى تفاهمات. وفي الاول من يناير وبعد مضي ثلاثة اسابيع على التظاهرات، اعلنت قوى ما يعرف بتحالف 2020م التي تضم منبر السلام العادل برئاسة الطيب مصطفى وحزب الامة جناج مبارك الفاضل والاتحادي الديمقراطي جناح اشراقة والاصلاح الآن، أعلنت انضمامها للحراك وتأييدها له في خطوة قوبلت بالرفض من قبل تجمع المهنيين، وتلك كانت اولى الخطوات التي اسهمت في زعزعة الثقة في المهنيين واوضحت انهم اقصائيون، في وقت برزت فيه تصريحات وتحركات من القوى المؤيدة للتظاهرات والمتحالفة مع التجمع مثل الامة والشيوعي وغيرهما، توحي بأنهم طامحون وطامعون لاختطاف الحراك، وهو ما رفضته مجموعة من الشباب المحتجين، معتبرين انهم يسعون لاختطاف المشهد السياسي من بين ايديهم.
ومنذ ان بدأت الاحتجاجات في الانحسار دبت خلافات وسط تجمع المهنيين بالخارج، وذلك بتصريحات متبادلة بين قياداتهم خاصة الوسيطة منهم وتسجيلات مسربة حول دعومات واموال لقيادة الحراك من الداخل، وكذلك اقالة الناطق الرسمي للتجمع بالخارج محمد الاسباط ، وفي الخرطوم بدا واضحاً مؤشر الخلافات وذلك بانتقاد بعض قادة الحراك لزملائهم خاصة الكاتب الصحافي فيصل محمد صالح الذي انتقد بشدة لغة التجمع وما يعرف في اوساط الشباب بالرندوك، وقال معلقاً بصحفته الشخصية: (بمناسبة حملة توزيع الشهادات والأوسمة واللعنات، أنا برضو خطاب الراندوك بتاع تجمع المهنيين ما عاجبني، ألا هل بلغت اللهم فاشهد)، وكان ايضاً الروائي المعارض حمور زيادة قد وجه انتقادات شديدة للمهنيين بسبب لغتهم الاقصائية، فيما شن الناطق باسم التجمع السابق محمد الاسباط هجوماً عنيفاً على المجتمع الدولي والاقليمي لتأخر دعمهم وتأييدهم للحراك، واصفاً المجتمع الاقليمي المحيط بالسودان بانه نادٍ للطغاة والظالمين والديكتاتوريين والفَسَدة، كما وصف الاتحاد الإفريقي بأنه نادٍ للأنظمة الفاشلة.
وحملت صحف الأمس تصريحات لنائب رئيس تحالف 2020م ورئيس منبر السلام العادل الطيب مصطفى يصف فيه المهنيين بالاقصائيين، حيث قال مصطفى بحسب المركز السوداني للخدمات الصحفية، ان تحركات تجمع المهنيين لم تجد القبول، واصفاً أياه بأنه مجموعة إقصائية تريد السطو على الحراك الأخير، مؤكداً أن تجمع المهنيين ليس مقبولاً للشعب السوداني. وقال الطيب مصطفى نائب رئيس التحالف في تصريح لـ (المركز السوداني للخدمات الصحفية) إن تجمع المهنيين مجموعة شيوعية تريد اختطاف الحراك الشبابي، كما حدث في عام 1965م (جبهة الهيئات) وعام 1985م (التجمع النقابي)، مبيناً أن محاولات اختطاف الثورات سلوك معلوم عند الشيوعيين، وهو مرفوض ولن يجد حظه من النجاح. واوضح مصطفى أن بعض قيادات التجمع شاركت في الحكومة التي شكلت بموجب اتفاقية السلام التي وقعت بين الحكومة والحركة الشعبية.
وبالمقابل رفض القيادي بالاصلاح الآن اسامة توفيق دمغ تجمع المهنيين بالاقصائي، غير انه سخر في ذات الوقت من التضخيم والاقوال التي تشير الى ان تجمع المهنيين هو الحاضن الاول للاحتجاجات، وقال: (من هم تجمع المهنيين وكم نفر وبمثلوا شنو وبمثلوا منو)، وتابع محدثي في افاداته وقال: (ليست لدينا مشكلة مع تجمع المهنيين وهم منضوون مثلنا في الجبهة الوطنية لاعلان الحرية والتغيير). يُشار إلى أنه في الثاني والعشرين من فبراير الجاري، اعلن رئيس الجمهورية المشير عمر البشير جملة من القرارات ومن ضمنها اعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة المركزية وحكومات الولايات وابتعاده عن الحزب الحاكم على ان يصبح رئيساً قومياً، وتبع ذلك باجراءات على ارض الواقع بأن فوض صلاحياته الرئاسية بالوطني الى نائبه الجديد مولانا احمد هارون، في خطوة جادة عبرت عن الحكومة برئاسة البشير الى تغيير المشهد الماثل واجراء اصلاحات سياسية واقتصادية.
ويرى خبراء سياسيون ان الثقة في التجمع تناقصت من قبل حتى الشباب الذين كانوا يخرجون للتظاهرات، وذلك بعد خيبات الامل وانحسار التظاهرات، كما ان الضبابية المحيطة بالمهنيين ايضاً ادخلت الكثير من الشباب في حيرة، خاصة ان التجمع لم يعلن عن رئيسه او خطتهم للاصلاحات، وكذلك بعد ان تحولت من اسباب اقتصادية الى سياسية، ويراهن البعض على ان القرارات الاخيرة من البشير ستفضي الى تغييرات واسعة واصلاحات، وما هو يعني ضمنياً ان حراك المهنيين سيواجه مصاعب وتحديات.
تقرير : محمد جمال قندول
الخرطوم (صحيفة الإنتباهة)