لا يفهم معظمنا في الاقتصاد كثيرا، ولكنا نفهم جيدا الأسباب التي تطور اقتصاديات الدول. ومن ضمنها الاستقرار السياسي الذي يقوم على قاعدة حكم فاعلة، وخطة جيدة لتوظيف الموارد الطبيعية، ووجود نظام إداري شفاف لأجهزة الدولة المعنية، وتحفيز المستثمرين مع توفير كل مدخلات الإنتاج لهم، وتهيئة البيئة لصغار المزارعين والرعاة في حالة بلادنا. وهناك الكثير من عوامل الازدهار الاقتصادي الذي لا يسمح الحيّز بتضمينه.
وما دام الأمر كذلك فإننا نبدو في الختام وكأننا نتحدث عن أسباب أدعى لتطوير النظام السياسي قبل الاقتصادي. وهو كذلك الأمر. فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. ومهما بلغت الإمكانية الاقتصادية فلا قيمة لها إن لم تجد عقلا سياسيا محنكا. والعكس هو الصحيح فالنظام السياسي الذي هو مبدع يصنع من “الحبة قبة” مهما شحت الموارد الطبيعية. والدليل يتمثل في اليابان وسويسرا، والنمور الآسيوية كافة. وأبعد من ذلك أن الاقتصاد الغني هو المدخل لتطور الوحدة الوطنية، ونماء الفكر، وشؤون الدفاع الوطني، والأكاديميا، والاجتماع، والإعلام، والفنون، والتجارة، والتعليم، على المدى البعيد.
ولعل مشكلة اقتصاديات العالم الثالث تكمن في سياساتها المعنية بشؤون الحكم. ومهما أغدق صندوق النقد، أو البنك الدولي، قروضا تسترد، أو منحا مجانية، لدعم اقتصادياته فإن النخبة الوطنية، لأسباب تتعلق بجهويتها، وتضاؤل التزاماتها الوطنية والأخلاقية، وقصور نظرها في الحوكمة، تمتص هذه الأموال لتنفيذ مشاريعها السياسية ذات السمة الأيديولوجية، أو الإثنية، أو المذهبية.
إذ لدى معظم دول الجنوب الفقيرة كما يسميها كلوفيس مقصود كل مقومات النجاح الاقتصادي. ولكنها تفتقر إلى القيادة السياسية المؤهلة التي تمنع الحروب، والنزاعات الأهلية، وهجرة الخبرات الوطنية، وتآكل أعمدة المشاريع، والخدمات، التي تركها المستعمر. وكل هذه العوامل من تفاصيل الفشل الاقتصادي الذي يتبعه أيضا تنامي الأمراض الوبائية، والمجاعات، والفيضانات التي تدمر القرى، وغيرها كثير.
-٢-
وللاسف أننا نسمع اقتصاديين معارضين يطرحون أفكارا لمعالجة أزمتنا الاقتصادية الحالية، ولا يصطحبون الواقع إجمالا، أو كأن علم الاقتصاد في حل من الاستعانة بقراءات سياسية، واجتماعية تعين على بلورة رؤى اقتصادية مدعمة بالمحيط المجتمعي. إنهم يتحدثون بلغة الأرقام الفلكية، ويبذلون السياسات الاقتصادية البديلة، ولكنهم ينسون أن فشل اقتصاد دولتنا مرتبط بوجود اقتصاد آخر يتعهده تنظيم الإخوان المسلمين. وهذا النوع من الاقتصاد قائم على فكرة أن خزينة الدولة إنما “بيت المال” لتجيير الموارد لصالح الحزب الواحد، واستنفاع عضويته وشغيلته المؤلفة قلوبهم، وتطوير عمل استثماراته الطفيلية، والصرف على مساهمات مالية، وعينية، لإعانة إسلاميين غير سودانيين، وشراء ذمم النخب العربية، والإفريقية، والدولية المؤثرة التي تدافع عن النظام في المؤسسات الكوكبيبة.
فهل يعقل بعد كل هذا أن يحدثنا خبراء اقتصاديون كبار أمثال التجاني الطيب، وحسن بشير محمد نور، وكبج، وإبراهيم البدوي، وصدقي كبلو، وحامد التجاني، وآخرون من دونهم يدعون لزيادة الإنتاج، أو ضبط سعر الصرف كحل حتى تهيمن الحكومة على النقد الأجنبي، أو إعادة تأهيل المشاريع الزراعية، أو فتح الأبواب أمام المستثمرين الأجانب، أو قفل باب استيراد “كماليات الشعب” كما يقول الاقتصاديون الإسلاميون ببرودة مقيتة.؟
إن قضية الفشل الاقتصادي لا تتعلق بغياب السياسة الاقتصادية الرشيدة، وإنما تتعلق بالكاد بوجود هذين الاقتصادين: اقتصاد السودان في مواجهة اقتصاد الحركة الإسلامية. وهذان النمطان للأسف لا يراهما بعض من اقتصاديينا الأماجد، ولذلك تأخذهم حسن النية، أو الهمة الوطنية لتقديم روشتات اقتصادية تبدو متعمقة في الأكاديميا الاقتصادية البحتة. ولكن ماذا نفعل مع تسعة آلاف دستوري منذ مجي الإنقاذ، وكما تعلمون أن هذا الجراد الجرار قضى على زرع البلاد الاقتصادي لوحده، فما بالك بما صرفناه في حرب الجنوب المسببة أيديولوجيا، ثم دارفور وبقية مناطق النزاع المسببة جهويا؟ وماذا يعني لو صبت الصناديق العربية عشرين مليارا من اليورو لقيام مشاريع زراعية، وصناعية، وخدمية؟، أو لم يكن دخل البلاد من البترول قد فاق الخمسين مليارا من الدولارات في ظرف عقد من الزمان بينما كانت القروض الربوية هي الفيصل في تعاقدات النظام لتطوير البنى التحتية.؟ بل ما الذي يمكن أن يفعله أفضل اقتصادي فاز بنوبل إذا وضع أفضل خطة اقتصادية للبلاد دون أن يلغي اقتصاد الحركة الاسلامية غير المفكر فيه لدى قادتها؟ ثم أولم يكفي القول إن الحركة الإسلامية ورثت مشاريع للدولة منتجة، وكانت تستوعب مئات الآلاف إن لم نقل الملايين من الموظفين والعمالة الوطنية؟
-٣-
لقد فجعنا بحديث رئيس الوزراء الجديد، والذي كاد يقسم بأنه سيثكل كل من يتاجر في “السوق السوداء” للعملة بعد تحرير سعر الصرف. إنه تحدث بذات طريقة يوسف عبد الفتاح الذي زعم عبر التلفزيون يوما بأنه سيثكل كل سائقي المركبات العامة في حال إضرابهم عن العمل. أي أن الإنقاذ، بحديث معتز، قد أعادتنا ثلاثين عاما للوراء حين جاءت بلا برنامج اقتصادي غير ملاحقة تجار العملة، وكل من يملك منها ادخارا لا يتجاوز العشرة آلاف دولارا. ونتذكر أن تلك السياسة أودت باثنين من الأبرياء: جرجس ومجدي، وما مر أقل من عقد حتى أصبحنا نرى أجهزة الإعلام تحتفي ببعض تجار العملة التماسيح، وتكني أحدهم برجل البر والإحسان. والأنكأ وأمر أن رئيس الجمهورية نفسه يزاور هؤلاء في منازلهم، ويتبادل معهم القفشات، دون أن يتذكر أن إلهه سيحاسبه على مقتل أبرياء اتهمهم بتجارة العملة بينما هو يتسامر بكل أريحية مع شيخ تجار العملة السودانيين.
ما كان لمعتز أن يرفع عقيرته ليعيدنا لأجواء بدايات الإنقاذ حتى تجد سياسته الجديدة النفاذ. ولو أننا نفهم أن معظم سياسيي الإنقاذ يؤمنون بسياسة ترهيب المواطنين، وأعدوا لهم…….، فإن الأيام دول أمام تخبطات معتز الذي يريد أن يسعف اقتصاد السودان بصدمات، ثم ترهيب، بينما هو يدرك أن اقتصاد الحركة الإسلامية الذي تنامى، وما يزال يعتاش على اقتصاد مجاميع السودانيين، هو الأحق بالمراجعة.
وهذا يعني أن زملاءه أولى بالترهيب حتى يسترد مليارات الدولارات القابعة في ماليزيا، وغيرها التي تحولت لمشاريع كبيرة، وصناعات صغيرة، وأوضاع رفاهية إنمائية يرفل فيها كوادر الحركة الإسلامية. أما بقية السياسات التي تعيد لاقتصادنا مجده فإن معتزا بحاجة إلى الاعتراف بأن معبد الدولة الإسلامية استنفد كل خيرات البلاد، وينبغي هدمه فضلا عن أن الميزانيات التي تحافظ عليه يجب أن توجه لدعم الزراعة، والصناعة، مثلا بخمسين من المئة، والتعليم والصحة بأربعين بالمئة لكلاهما. وهذا هو أقصر الطرق نحو اقتصاد سليم، ومعافى، على المدى البعيد، على أن تقوم كل هذه السياسات الاقتصادية على قاعدة من الحكم الرشيد. ولا نسمع عندئذ قعقعة لسلاح في المدينة، أو الريف، حتى نعيد التوازن الوطني، والنفسي، للمواطن المنتج، وبالتالي نستطيع أن نضيف نسبة النمو السنوية شيئا فشيئا حتى نلحق جارتنا الإثيوبية، أو الحبش كما نفضل تسميتهم، على الأقل.
كل ما نخشاه أن يتطور تهديد معتز لصغار تجار العملة إلى ظلم جديد، بينما نجد تجارها الإسلاميين الذين يتاجرون بملايين الدولارات ينعمون بإثراء أنفسهم ثم يتبرعون للمؤتمر الوطني في ليلة واحدة بعشرين مليارا. متى يتخلى الإسلاميون عن سياسة الضحك على الذقون حتى يحاسبون أنفسهم قبل البحث عن كبش فداء لفشلهم العام عند الأبرياء؟ يتوجب احترام عقلية شعب السودان يا معتز مهما ضعفت حيلته نحوكم.