الخرطوم: فاطمة مبارك
إضاءة
يتفق مؤرخون وسياسيون كثر على أن من اقوى الأسباب التي أدت لسقوط نظام “إبراهيم عبود” هي مشكلة جنوب السودان، وحدث ذلك عندما أصدر الفريق “عبود” بحق جنوب السودان قرارات قضت بإلزامية تعلم الجنوبيين للغة العربية وإدخالهم في الإسلام قسراً وطرد المسيحيين الأجانب من جنوب السودان، ومحاولة إدخال زعماء القبائل الجنوبية في الإسلام إما بالقوة أو بالإغراء بالمال ورويداً رويداً تفاقم الأمر واشتعل بين السودانيين، وكبر التمرد جداً وأصبح الناس يسمعون بشكل راتب أخباراً عن قتلى للقوات المسلحة يسقطون على يد التمرد،بجانب ذلك كانت هناك أسباب على مستوى الإقليم عجلت بالثورة.
شرارة أكتوبر
اندلعت الشرارة الأولى لثورة(21 أكتوبر 1964م) إثر ندوة أقيمت بجامعة الخرطوم بعنوان (المعالجة الدستورية لمشكلة الجنوب) تحدث فيها دكتور “حسن عبد الله الترابي” قائلاً: “إن حل مشكلة الجنوب يكمن في حل مشكلة الشمال ويكمن الاثنان معاً في زوال الحكم العسكري الحالي وقيام حكم دستوري مؤسس على الخيار الديمقراطي للشعب، وبحسب رئيس اتحاد جامعة الخرطوم حينها دكتور “ربيع حسن أحمد” في حديثه لـ (المجهر) أن لا أحد تخيل أن تكون هذه الندوة سبباً في حركة سياسية كبيرة تصل مرحلة ثورة، بدليل أن الحكومة نفسها لم تأخذها بتلك الجدية، وما يؤكد ذلك أن جريدة الأيام المحسوبة على النظام نشرت الكلام الذي ذكره “الترابي”، لكنهم لم يتحدثوا عن مشكلة الجنوب، و”الترابي” آنذلك لم يكن معروفاً ، وأول ظهور سياسي له كان في تلك الندوة ، و سبق أن أكد الزعيم الراحل دكتور “الترابي” لبرنامج شاهد على العصر، الذي تبثه قناة الجزيرة أن ثورة (21 أكتوبر 1964) التي أطاحت بالفريق “عبود” شكلت منعطفاً بالنسبة له وللحركة الإسلامية ،وقال إنه بدأ يظهر سياسياً بعد اشتغاله بالعمل الأكاديمي ، وعودته من فرنسا ،وكان ذلك أيضاً بمثابة تمدد للحركة الإسلامية ، التي مرت بحالة كمون بين عامي(1959 و1964)،واتهم “الترابي” في الحلقة الثالثة لبرنامج شاهد على العصر الشيوعيين بالاستيلاء على ثورة (أكتوبر 1964)، بعدما فجرها الإسلاميون وأقر بأن الإسلاميين لم تكن لهم خبرة مثل الشيوعيين الذين كانت لهم تجارب حول كيفية الاستيلاء على الثورات .
أما على صعيد جامعة الخرطوم، التي قيل إنها كانت أيقونة الثورة ، وصف “ربيع حسن أحمد” الأجواء حينذاك بالملتهبة سياسياً ، والرأي السائد وسط الطلاب هو معارضة نظام “عبود” باعتباره نظاماً عسكرياً أوقف الحكم الديمقراطي، و”عبود” في ذلك الوقت كان قد أوشك أن يكمل العام ونتيجة لذلك رفع اتحاد طلاب جامعة الخرطوم مذكرة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، والحديث لـ”ربيع” طلب فيها إنهاء الحكم العسكري وعودة الجيش إلى ثكناته وعودة السودان إلى النظام الديمقراطي المدني، ورداً على ذلك اتخذت إجراءات داخل الجامعة ضد تلك اللجنة ومنذ هذه اللحظة استمر الاتحاد في موقفه المعادي للحكومة.
من صنع أكتوبر؟
“ربيع” قال عندما تكوَّنت الجبهة الوطنية داخل السودان كان السيد “الصديق المهدي” معارضاً ظاهراً، وكل الأحزاب موجودة وحكومة “عبود” دخلت معهم في مشاكل واعتقلتهم، كذلك نقابات العمال كان لها نشاط، فحركة المعارضة كانت مستمرة وأهم الشخصيات في الجبهة كان السيد “الصديق المهدي”، لأن موقفه كان واضحاً تجاه نظام “عبود”، “إسماعيل الأزهري” وكل طاقم الحزب الاتحادي كانوا موجودين، والحزب الشيوعي كان موجوداً، وكذلك الأخوان المسلمين، وممثلين للحركة الإسلامية، أما حزب الشعب الديمقراطي الذي انشق عن الحزب الاتحادي كان واقفاً مع الحكومة، لكن الحزب الشيوعي في تلك الأيام حسب قراءتنا نحن كان مهادناً للحكومة في تلك الفترة، وأغلب كوادره خرجت من السجن بمن فيهم “عبد الخالق محجوب” والوحيد الذي كان معتقلاً هو “أحمد سليمان” لأسباب أخرى لكن الباقين كانوا غير معتقلين.
ماذا قال “الصادق المهدي” عن أكتوبر
“الصادق المهدي”، واحد من الزعماء الذين تحدثوا كثيراً عن ثورة أكتوبر ، “المهدي” ووفقاً لإصدارات وثقت لحديثه أنه قال :بمجرد أن أحس القادة السياسيون باشتعال الثورة الشعبية، والتي كانت مفاجأة بالنسبة لهم، وسماعهم وجود انشقاق داخل القوات المسلحة، قرروا التحرك إلى الإمام بصورة فعالة. بجانب نجاح الإضراب السياسي. وأشار “المهدي” إلى أن الشيوعيين، داخل جامعة الخرطوم وخارجها، عارضوا الندوات والاجتماعات داخل الجامعة. وتقريباً، لم يلعبوا أي دور في مراحل الثورة الأولى. لكنهم، في وقت لاحق، ومثل بقية القادة السياسيين، وجدوها فرصة. ولعبوا دوراً أكبر، بسبب قوة فعالية قادتهم. ولهذا عندما تجمعت كل القوى السياسية في جبهة وطنية، زادت قوة الشيوعيين عن حجمهم الحقيقي، وذلك لأنهم كانوا تغلغلوا في قيادات المنظمات المهنية، والعمالية، والثقافية. وعندما جاء وقت المفاوضات لتقسيم الغنائم، حصلوا على مقاعد وزارية كثيرة.
وبدوره سبق أن تحدث الدكتور والكاتب والمفكر المعروف “النور حمد” في حوار أجرته معه (المجهر) في وقت سابق عن الأسباب السريعة لنهاية الثورة قائلاً: كتبت ورقة بعنوان: “ثورة أكتوبر من الأيقونة إلى التشريح”، نشرها مركز الدراسات السودانية في كتابه الذي أصدره بمناسبة مرور خمسين عاماً على ثورة أكتوبر، خلاصتها أن ثورة أكتوبر ثورة اختطفها الحزب الشيوعي السوداني ، وقوى اليسار الدائرة في فلكه، ولم تكن تهدف إلى إقامة نظام ديمقراطي. كما أنها كانت ثورة بلا رؤية وبلا طاقة للاستمرار. مضيفاً إن الثورة لا تنحصر في مجرد تغيير نظام الحكم القائم، وإنما ينبغي أن تمتلك رؤية، وقدرة على الاستمرارية، وعلى حراسة مكاسبها، وعلى نقل الأوضاع من مربع أدنى، إلى مربع أعلى. بغير هذه الشروط، تنتهي الثورة إلى ردة وانتكاس، وخلخلة للاستقرار، لا يأتي منها سوى الاضطراب لفترة طويلة، تصبح خصماً على مسار التقدم الكلي.
بالعودة لمن صنع الثورة، نقول: بالرغم من الجدل الذي يدور حتى الآن حول أدوار الأحزاب في تفجير ثورة(21 /أكتوبر 1964) ، ومن صنع الثورة ،إلا أن كثيراً من الكتابات وثقت لأدوار مشتركة أسهمت فيها كل الأحزاب والتنظيمات كل حسب كسبها لأن الهدف كان هو إزالة نظام “عبود” وكان التحدي المحافظة على ما تحقق من مكاسب لكن اختلافات جوهرية حول الحكم والفكرة أدت إلى ضياع الثورة .
نهاية حكومة “عبود”
قيل إن رئيس القضاء في حكومة “عبود”، ” أبورنات” كان رجلاً مؤثراً في النظام واتصل بـ”عبود” عندما اشتدت المظاهرات، قال له أنا سأستلم مذكرة المحامين التي كانوا ينوون تقديمها للرئيس وأحضرها إليك، وسلمها فعلاً لـ”عبود” ،بعدها كل القضاء اتصلوا بزملائهم في الأقاليم وحدثوهم عن وجود إضراب، وكذلك فعل الأطباء والمهندسون بعد ذلك المظاهرات انتظمت البلاد (الأحد الاثنين الثلاثاء)، وانضم كل الطلاب وأصبحت هبة شعبية والشعارات كلها كانت: “يسقط عبود وتسقط الديكتاتورية العسكرية” ، كذلك هناك مجموعة من الناس قاموا بمظاهرة من أمام الجامعة وجاءوا إلى القصر والحرس ضربهم بالرصاص، وسقط بعض منهم ، وآخرون أصيبوا بجراح وهذه كانت أول مرة يضرب فيها الجيش المتظاهرين، من قبل كانت المواجهة مع الشرطة، ويقال إن هذه هي التي عملت على تحريك وتململ وسط الجيش .
حتى أصدر الرئيس “عبود” بياناً حل فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقال سيتبع خطوته بخطوات، وهو يريد أن يجلس مع الناس ويتفاوض في الخطوات المقبلة.
The post بعد (54) عاماً لا يزال الجدل محتدماً حول مفجريها appeared first on صحيفة المجهر السياسي السودانية.