كان ذلك ، يوم 18 اكتوبر 1983.
راح الاستاذ حسن ساتي، يمررُ عينيه (اللتين أكلهما نمتي العفاض)، سريعاً جدا في الصفحة الاولى، ابتسم، راح يمررهما وهو يبتسم، أكثر، في الصفحة الثانية.. الثالثة.. زادت ابتسامته، بمقدار سنتيمتر واحد، أو سنتيمترين، في الصفحات التالية، قبل، أن يجيئني صوته:
– هذا الحوار، جميل جدا، لكن.. لكن ليس مكانه جريدة الأيام.
لم ينتظرني، لأسأله (ليه) ؟
وما كنتُ أصلا، سأسأله.
لم ينتظرني ريثما أسأله عن مكانه- مكان الحوار- ولم يرفع هو عينيه لينظر في عينىّ، ليُجيب. فتح سريعا درجه الأيمن، وهو يقول لي : (مكانه هنا ) ، وهمّ أن (يدس) الحوار في الدرج و(يسدو)!
– لا لا يا أستاذ.. أديني ليهو.. أديني ليهو!
مرة أخرى، لم يرفع الاستاذ حسن عينيه، لينظر في عينىّ (المشاغبتين)، فقط ناولني الحوار، وهو يتشاغلُ بادارة قرص التليفون!
…وظل الحوارُ في درج مكتبي، أخرجه كل أسبوع أو أسبوعين.. كل شهر أو شهرين.. أنفضُ عنه الغبار، أربتُ على كتفه، وأقول له- بيني وبين نفسي- وأنا أدسه مرة أخرى في الدرج: “انتظر ياابو الصحب، ليك يوم، ماتفتكر إنك ح تموت أو إنك ح تكون.. (اوت اوف ديت)، صدقني.. أي زمان ياهو زمانك”!
كان ذلك الحوارُ المطول، مع الاستاذ سر الختم الخليفة، رئيس وزراء حكومة اكتوبر 1964، والذي كان يشغل وقت الحوار مستشاراً للرئيس نميري للتعليم العالي.
الحوار الذي امتد لأكثر من ساعتين، مع سر الختم، كان عن ثورة اكتوبر: اندلاعها، بيان الفريق عبود، قصة تشكيل حكومتها الاولى والثانية، ولماذا اختير هو- سر الختم- في المرتين رئيسا للوزراء.
الحوار امتد إلى ( ليلة المتاريس)، وبيان فاروق ابو عيسى، الذي كان وراء تلك الليلة الشهيرة جدا، في تاريخ الثورة، وفي تاريخ ( صناع المجد).
الحوار أيضا، تضمن قراءة مني ( من قريب جدا ) للأستاذ سر الختم، إذ هو يتحدث بيديه الاثنتين معاً، وإذ هو يشبك يديه، وإذ هو يقسم، وإذ هو في كل مرة يقسم فيها، يسبق القسم مستدركا ب(لكن)!
الذين عاصروا عهد النميري، يتذكرون جيدا، أن 21 اكتوبر، الذي كان يحتفي به (أولاد خور عمر)، في سنين مايو الاولى، لم يعد يحتفي به (من تبقى من أولاد خور عمر) في سنين مايو الأخيرة. كان يجيئ ويفوت، منذ نهاية السبعينيات، مثل أي يوم من أيام السنة، ماعدا (أول يناير)، و( 25 مايو )، واليوم العالمي للجوع!
كانت التعليمات واضحة، لوزيرى الاعلام والتربية، ورؤساء تحرير الصحف الثلاثة، ومديري الإذاعة والتليفزيون: لا ذكرى إطلاقا لأكتوبر.. لا كتابة في الصحف ولا (ملحمة)، ولا غنوة باسمه الأخضر الأرض تغني، في الإذاعة والتليفزيون، ولا طوابير صباحية في المدارس، ولا مسيرات ل( أصبح الصبحُ، ولا السجنُ ولا السجان باقي)!
كانت تلك هي التعليمات. ..
التعليمات ، التي كنت أعرفها ( من جاي ل جاي)،
التعليمات التي تأكدت منها-ضمنيا- من الاستاذ حسن ساتي، إذ هو يدسُ عينيه، في الحوار، يبتسم، ويبتسم أكثر.. قبل أن يقول لي: ( هذا الحوار….. ) ويختم جملته ب( لكن ليس مكانه جريدة الأيام ) وهو يهمُ -في ذات الوقت- أن ( يتربسه ) في الدرج !
ظللتُ أفتحُ الدرج- درجي- لأخرج كما قلتُ لكم، الحوار، أنفضُ عنه الغبار، والعته، ابتسم في وجهه، قبل أن أقول له- وأنا أعيده الى الدرج- (انتظر يـا أبو الصحب.. انتظر)!
وظل أبو الصحب، منتظرا عاما كاملا، يتململ، غير أنه لم يفقد طعما، ولا حرارة، ولا صلاحية. ظل… إلى أن جاءت اللحظة التاريخية، التي كنت أترجّاها، وأتحيّنها بشق الأنفس ، ل(أفكه ) يمشي في( الأيام ) في صباح اليوم التالي، ليكسر واحدا من المحرمات الكثيرة: ممنوع النشر!
كانت تلك اللحظة التاريخية، في ليل 17 اكتوبر 1984، وفي مكتب حسن ساتي نفسه، فيما كان هو- حسن ساتي- يوشك أن ينهي حديثا لنائبه الأستاذ محيي الدين تيتاوي.