رئيس الوزراء وزير المالية معتز موسى في سعيه لإنعاش الاقتصاد عبر محاولته إجراء إصلاحات هيكلية، يدرك جيداً أن واجهة نجاحه ترتكز على استقرار سعر الصرف قبل استعادة الجنيه عافيته وقوته، في وقت لم ترد في كل خطاباته أي إيحاءات باللجوء إلى الخارج، وقطع لدى لقائه باتحاد أصحاب العمل بأنه لن تكون هناك فرصة للاستدانة والقروض الخارجية، كاشفاً حينها بالأرقام عن هول ما تفعله ديون صندوق النقد والبنك الدولي بالاقتصاد السوداني بسبب الفوائد.
حيثيات في المشهد
إلا أن الملاحظة الأساسية التي تدركها حكومة معتز، أن جذب الاستثمارات الكبيرة رهين باستقرار سعر الصرف وانخفاض التضخم وتعزيز البيئة الاستثمارية، مما يتطلب أيضاً حالة من الرضا من المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا.
وقد ظهر جلياً منذ رفع العقوبات في أكتوبر من العام الماضي أن رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية أعطى نتائج أقل فاعلية للاقتصاد السوداني في ظلِّ وجود عقوبات أخرى مُطبَّقة على رأسها وجود السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، فلم تأتِ استثمارات طويلة الأجل وظلَّت المؤسسات المالية العالمية تنظر بتحفُّظ.
كما أن تركة الديون الثقيلة ولائحة العقوبات تحول دون منح السودان أية قروض جديدة حتى من أقرب حلفائه وأصدقائه، خاصة في ظلِّ تسريبات عن حالة من الفتور في العلاقات مع دول الخليج التي كانت ينتظر أن تكون أكبر داعم للخرطوم في تجاوز محنتها كما حدث مع القاهرة وعمان وأديس أبابا.
حكومة معتز أدركت كُلّ هذا ومضت في سياساتها الاقتصادية الجديدة مُعتمدة على الموارد الذاتية دون الانشغال بالدعم الخارجي. ويُلاحظ ذلك في أن القرارات التي اتخذتها حكومة معتز موسى لم تنبنِ على أية ودائع أو مساعدات خارجية وعلى رأسها مساعدات دول الخليج التي يبدو أن الخرطوم قد قنطت من دعمه سواء من معسكر الرياض وأبوظبي أو حتى الدوحة.
يأتي ذلك في ظل توقعات قاتمة أطلقها صندوق النقد العالمي بخصوص الاقتصاد السوداني، وأبرز ما فيها أن الاقتصاد السوداني سيشهد تباطؤاً ويتقلص النمو بنسبة 2,3% هذا العام و1,9% العام القادم 2019، بسبب استمرار التحديات الداخلية، وسيهبط الناتج المحلي الإجمالي للفرد في السودان بنسبة تتجاوز 20%.
صندوق النقد الدولي قال أيضاً إن التضخم في السودان سيصل 61.8% هذا العام و49.2% عام 2019 و61.1% عام 2023، وتوقع أيضاً تدهوراً غير مسبوق في ميزان المدفوعات 14.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018 و13.1% عام 2019 و10.4% عام 2023، فيما أشار إلى أن البطالة في السودان – حسب التقرير – أيضاً ستظل على مستوياتها المرتفعة 19.5% دون تغيير يُذكر.
(3) أسباب لفتور العلاقات مع الخليج
غياب الخليج من مشهد الأزمة الاقتصادية السودانية عقب تشكيل الحكومة الجديدة بدا أمراً مثيراً للحيرة، خصوصاً أنه بعد مرور عام على رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان تساءل العديد من المراقبين حول تدهور الأوضاع الاقتصادية التي سارت عكس التوقعات؛ إلا أن العديد من التحليلات تشير إلى أن رفع العقوبات لم يكن فعالاً خاصة في ظل إحجام دول الخليج عن ضخ استثمارات اقتصادية كبيرة في السودان وتقديم الدعم إبّان مواجهته لأزمة الوقود وتقلبات سعر الصرف، وهو ما يقود للتساؤل حول حقيقة العلاقة بين الخرطوم والخليج خاصة في ظل غياب الزيارات رفيعة المستوى سواء بشكل مباشر أو حتى من خلال الجولات الإقليمية التي وصلت القاهرة وأديس أبابا ولم تمتد للخرطوم.
مراقبون يرون أن عدم مساندة الخرطوم لمواجهة أزمتها الاقتصادية يأتي في سياق الضغوط ليتراجع السودان عن موقفه المحايد لمساندة الرياض وأبوظبي ضد الدوحة، باعتبار أن ذلك أول أسباب فتور العلاقة، في وقت أظهرت فيه تسريبات إعلامية استياءً إماراتياً من موقف السودان تجاه الأزمة الخليجية ومقاطعة قطر بعد تبنيه لموقف محايد لم يُرْضِ أبوظبي والرياض.
المحلل الاقتصادي محمد عبد الحميد يذهب في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن الأزمة الخليجية جاءت لتثير الشكوك بالنسبة لموقف السودان حيث تنظر الأطراف الخليجية لموقف السودان المحايد بأنه لا يخرج من سيناريوهين: أولهما محاولة للعب على الحبلين طمعاً في الحصول على المزيد من المكاسب من الدول المُقاطِعة لقطر؛ أما السيناريو الثاني لتكون خطوط المصالح على مستوى مستقيم مع كلا الجانبين.
فيما يرى الصحفي المهتم بالشأن الخليجي محمد مصطفى جامع، في حديثه لـ(السوداني) أمس، أن العلاقات بين السودان ومعظم العواصم الخليجية تتسم بالفتور بسبب موقف الخرطوم المحايد الذي لم يكن مقبولاً لجميع أطراف الأزمة سواء معسكر السعودية والإمارات من جهة وقطر من الجهة الأخرى.
المحلل الاقتصادي د.هيثم فتحي يذهب في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن السعودية والإمارات أسهمتا في رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية، إلا أن مستجدات سياسية طارئة عكرت صفو العلاقات بسبب تدخلات إقليمية ودولية وتقاطعات المصالح بين الأطراف خاصة بعد اندلاع أزمة حصار قطر وموقف السودان المحايد من الأزمة الذي تعرض للتشويش بعد مشاركته السعودية والإمارات في تحالف عاصفة الحزم وتمتين علاقته مع قطر.
حرب الإخوان ثاني أبرز الأسباب
العلاقات بين الخرطوم ودول الخليج خاصة الرياض وأبوظبي، تجاوزت في السنوات الأخيرة ما تولد إبان حرب الخليج الثانية وتصنيف السودان ضمن معسكر الضد. التصعيد تزايد مع ميلاد تحالف مُعادٍ للإخوان المسلمين في وقت يصنف فيه النظام السوداني بأنه تأسس على قاعدة إخوانية. ويرى الصحفي المهتم بالشأن الخليجي محمد مصطفى جامع في حديثه لـ(السوداني) أمس، أن الرياض وأبوظبي تتوجسان من ارتباط الحكومة السودانية بالتنظيم العالمي للإخوان وعلاقتها مع دول قطر وتركيا خاصة بعد منح الحكومة التركية حق إدارة جزيرة سواكن ومنح قطر صفقة تأهيل ميناء سواكن نفسها.
ويزيد جامع أن عدم استجابة البشير لمطالب إبعاد الإسلاميين من الحكومة كما رشح من تسريبات أقلقت أبوظبي والرياض، مضيفا: “تسببت تصريحات البشير مؤخراً التي قال فيها (نحن حركة إسلامية كاملة الدسم) في مزيد من الفجوة مع الدولتين، بعد أن أتبع التصريح بقرار تعيين معتز موسى رئيساً للوزراء وهو معروف بأنه من الكوادر الإسلامية”.
المحلل السياسي محمد عبد الحميد لا يذهب بعيداً ويقول إن السعودية والإمارات تعتبران نظام الخرطوم امتداداً لجماعة الإخوان التي توصف بالإرهابية.
ثقة اقتصادية
أزمة الثقة بين الخرطوم وأبوظبي والرياض تمتد من السياسة إلى الاقتصاد، فثمة العديد من الشكاوى في بيئة الاستثمار السودانية. المحلل الاقتصادي د.هيثم فتحي يقول إن حجم الاستثمارات الخليجية العالمية تصل لنحو تريليونين دولار يتم استثمار معظمها في المصارف الغربية، ويمكن أن يتم تخصيص جزء منها للاستثمار في السودان إذا توفرت لها بيئة استثمارية آمنة وعائدٌ مُجزٍ.
المحلل السياسي محمد عبد الحميد يرى أن العلاقات في دول الخليج اتسمت بعدم الندية بسبب الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها السودان وسعت دول الخليج لاستثمارها لتحقيق مصالحها.
ويشير عبد الحميد إلى أنه خلال السنوات الخمس الماضية، فقدت السعودية معظم مزوديها من الخضروات والأغذية لظروف مختلفة (سوريا، ومصر، وتركيا)، مما أدى إلى ارتفاع فاتورة استيراد الغذاء بشكل كبير في السعودية، فيما بقى السودان مرشحاً ليعوض السعودية ما فقدته. وعلى الرغم من التباين السياسي مع الخرطوم أعلنت الرياض وأبوظبي إنفاذ مشروعات استثمارية، صحيح أن معظمها تم عبر شركات خاصة، إلا أنه في المقابل تم برضا حكومي.
(3) رهانات لحكومة معتز
تراهن حكومة معتز موسى على الموارد المحلية بزيادة الإنتاج، ويبدو تطوير الإنتاج الزراعي بشقيه الزراعي والحيواني رهاناً أساسياً بالنسبة لحكومة معتز، وتتوقع الحصول على نحو 4 مليارات دولار في الفترة القادمة من القطاع الزراعي في ظل استراتجية تهدف لرفع صادرات الإنتاج الزراعي إلى عشرة مليارات دولار بحلول 2020م.
حصيلة الصادرات الزراعية في عام 2016م بلغت 1.800 مليار دولار بينما ارتفعت في العام 2017م لتبلغ 2.5 مليار دولار.
الرهان الثاني يتعلق بعودة تدفق إنتاج نفط جنوب السودان وسط تقديرات بأن يُوفِّر استئناف إنتاج وتصدير النفط دخلاً سنوياً للسودان يقارب 3 مليارات دولار من عمليات تصدير النفط عبر الأنابيب التي تمر بالأراضي السودانية وكذلك الموانئ علاوة على عمليات الإنتاج التي ستصاحب الاستقرار الأمني.
المحلل الاقتصادي د.محمد الناير يشير إلى أن تلك العائدات من شأنها أن تخلق استقرارا نسبيا في سعر الصرف بالسودان ومن شأن تلك العائدات أن تقلص من العجز في الميزان التجاري والذي قُدِّرَ العام الماضي 4.1 مليار دولار، وهنا يمكن للسودان تغطية ما يقارب 75% من العجز في الميزان التجاري بالإضافة للاستقرار النسبي في سعر الصرف بحيث يحصل السودان على 25 دولاراً عن كل برميل نفط يتم تصديره، وتشمل رسوم المعالجة والنقل عبر الأنابيب ورسوم العبور، بالإضافة إلى التعويضات والمديونية السابقة للسودان على الجنوب كرسوم على عمليات سابقة لتصدير النفط وهو الأمر الذي يمكنه تقليل العجز في استهلاك النفط الخام في السودان.
الرهان الثالث يتعلق بحسن توظيف مورد الذهب بعد أن تجاوز إنتاج السودان العام الماضي 103 أطنان من الذهب، إلا أن التهريب أفقد السودان نحو ثلثيها، لذلك أتت سياسة جديدة للتعامل مع المعدن النفيس بشكل فعال يعزز من مساهمته في الاقتصاد في ظل سياسة لاستعادة العلاقة بين الجمهور والجهاز المصرفي ومحاولة استقطاب تحويلات المغتربين.
تقرير : محمد عبد العزيز
الخرطوم (صحيفة السوداني)