صديق البادي
تم تعيين دكتور جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة وزيراً للمالية والتخطيط الإقتصادي بموجب المحاصصات والإتفاقيات التي وقعت في جوبا . وتزامنت بداية عمله في الوزارة مع صدور قرار تعويم سعر الجنيه والمسؤولية في إصدار هذا القرار وتنفيذه جماعية تضامنية بين كافة مكونات السلطة الإنتقالية , وقد ساءت الأوضاع الإقتصادية وتردت الأحوال المعيشية والخدمية لقطاعات واسعة من الشعب السوداني تمثل الأغلبية الساحقة وأدخلت الأزمات الحادة المتلاحقة البلاد في عنق زجاجة قابعة في نفق مظلم . والقرارات الأخيرة تشبه العلاج بالكي ، ونأمل أن تكون هي العلاج الناجع وألا تكون سبباً في استفحال الداء وزيادة المعاناة .
والجنيه السوداني كان يساوي ثلاثة دولارات وثلث ، وبعد ضرب خط بارليف والإنتصار في حرب أكتوبر عام 1973م بالهجوم المباغت المفاجيء توقفت القيادة المصرية عن مواصلة الحرب والقتال لإدراكها أن أمريكا ستتدخل لصالح إسرائيل ولن يكون في استطاعة القيادة المصرية مواجهتها عسكرياً براً وجواً وإكتفت بماحققته من نصر معنوي أزال مرارات نكسة ـو بالأحرى هزيمة يونيو عام 1967م التي كتب عنها الشاعر نزار قباني قصيدتة الشهيرة (هوامش علي دفتر النكسة) ومن المواقف المشرفة التي لا تنسى في أجواء حرب أكتوبر عام 1973م ، أن رؤساء دول وحكومات إفريقيا قاطبة أعلنوا مساندتهم لمصر والعرب وقطعوا علاقاتهم الدبلوماسية مع إسرائيل باستثناء الرئيس دكتور باندا الذي رفض أن يقاطع اسرائيل طمعاً في تقديمها عوناً مالياً له ولدولته الفقيرة ، ولكنه لم يحصل منها علي شيء لأن إسرائيل كما هو معرف لاتقدم قروضاً ومعونات وهبات مالية لأية دولة خارجها ، وإمكانياتها لا تسمح لها بذلك ولكن كل مايمكن أن تقدمه هو كف أذاها وأذى من تحرضه من وراء ستار عن من يعترف بها ولايدخل معها في عداء سافر أو مستتر ، وأقصى ماتستطيع أن تتفضل به هو تقديم مساعدات أو إستشارات في مجال التقنية الزراعية مع أخذ حقها لقاء ذلك . وأعتبر الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل أن ماتحقق في حرب أكتوبر عام 1973م هو نصر معنوي مطلوب ولكن أتت في ذيوله آثار إقتصادية سالبة تضررت منها دول كثيرة لاسيما دول العالم الثالث ، والمعروف أن الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود والذي يمكن أن نصفه بالفارس النبيل أعلن أنه سيرفع أسعار النفط ومضى أكثر بالقول أنه سيحارب الدول الصناعية الغربية بتخفيض الكميات التي يتم ضخها بل يمكن قفل آبار البترول وتجميد عمليات ضخها ورد عليه دكتور هنري كيسنجر مهدداً باسم أمريكا وإسرائيل والغرب بأنهم سيحرقون آبار البترول إذا تم تخفيض ضخ الكميات أو قفل الآبار ومن جانبها رفعت الدول الصناعية الغربية أسعار منتجاتها وتبع ذلك قفل مصر لقناة السويس وتضررت دول كثيرة من الحرب الإقتصادية بين الطرفين وقفل قناة السويس ليستبدل التوريد والتصدير عن طريق رأس الرجاء الصالح بجنوب إفريقيا ، وتضرر السودان إقتصادياً أكثر من غيره وبدأت الأسعار في الإرتفاع وتبع ذلك تضخم وإنخفاض في قيمة الجنيه السودانى . وفي عام 1978م طبق الكادر الذي كان يوصف بأنه كادر حيدر كبسون وتمت زيادة المرتبات وتبع ذلك إرتفاع في الأسعار ولم يستفد العاملون في الدولة شيئاً من زيادة مرتباتهم لأن ماقدم لهم باليمين أخذ منهم بالشمال ، وبدأت الحكومة في الإذعان والخضوع لصندوق النقد الدولى وتنفيذ فاتورته وكانت آثارها تضخمية سلبية . وقبل ذلك كان العاملون في الدولة من موظفين وعمال يعيشون في رغد من العيش وكانت مرتباتهم تكفل لهم حياة مستقرة مستورة وكانت تتيح لكبار رجال الخدمة المدنية العيش الهنيء المريء كأنهم أمراء . وكان موقع فراش الشفخانة أو نقطة الغيار أو الفراش أو الخفير في المدرسة إذا أصبح خالياً لأي سبب من الأسباب فأن التنافس لشغله يكون شرساً وفي إحدى القرى الصغيرة حدث على سبيل المثال تنافس قبلي وكل قبيلة كانت تسند أحد المنتمين إليها من المتقدمين لشغل موقع فراش ولم يتم تجاوز هذا الإشكال إلا بإجراء قرعة بينهم تم بموجبها إختيار سعيد الحظ منهم .
ورغم كل شيْ إلا أن الذي كان يسند خزينة الدولة ويمدها بالعملة المحلية والعملات الحرة هو تحكم الدولة في عمليات الصادر والوارد وكان التصدير يتم عن طريق المؤسسات الحكومية الرسمية ، مثل مؤسسة بيع الأقطان التي كانت تصدره للخارج لتعود كل حصيلة الصادر بالعملات الحرة لخزينة الدولة وكذلك كانت تفعل المؤسسات التابعة للدولة كشركة الحبوب الزيتية وشركة الصمغ العربي والشركة المختصة بتصدير الماشية واللحوم و… الخ .وكل عائداتها تعود بالعملات الحرة لخزينة الدولة . أما في زمان « الخرمجه» والعبث المالي والفوضى وإنهيار المؤسسات الرسمية في مجال الصادر والوارد التابعة للدولة فقد أصبحت الصادرات خارج سيطرة الدولة وتصدر للخارج ولا تعود عائدات الصادر للخزينة العامة وأصبح حالها كحال أم عمرو « ذهب الحمار بأم عمر فلا رجعت ولا رجع الحمار « وكدست وجنبت عائدات الصادر في الخارج دون أن تكون للدولة والخزينة العامة سيطرة عليها وعند الحوجة الملحة لإستيراد الضروريات تضطر الدولة في كثير من الأحيان لشراء العملات الحرة من السوق السوداء وتلك قصة طويلة حكاياتها مثيرة وتفاصيلها الموثقة كثيرة لا يتسع لها هذا الحيز الضيق …. وإذا قفزنا فوق حواجز الزمن فأن ثورة التغيير عندما إنتصرت كان المأمول أن تركز جهودها في إيجاد معالجات بنيويه جذرية في القطاع الإقتصادي وقضايا وهموم المواطنين المعيشية مع ضبط الأمن بكل قوة وصرامة ومنع التفلتات والإجرام الذي تفشى ولكنها أهملت هذه القضايا وأنشغلت بالإنصرافيات وترضية الخواجات الذين لم يقدموا لها شيئاً يذكر وهدفهم هو السيطرة على موارد وكنوز وثروات هذا الوطن وإضعافه وشغله بالمعارك الإنصرافية والهوس الكلامي وشغله عن العمل والإنتاج توطئة لتقسيمه لعدة دول متنافرة وصدرت مؤخراً قرارات أضحى بموجبها سعر الدولار الرسمي ثلاثمائة وخمسة وسبعين جنيهاً ونجاح هذه السياسة المعلنة ليقتضي توفير مليارات الدولارات لخزينة الدولة وبنك السودان ، والخواجات لم يقدموا إلا الوعود الكاذبة ومن ينتظر منهم نوالاً يصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار والمنتظر السراب وماء الرهاب …. وإن المغتربين السودانيين بكل فئاتهم ومهنهم يعتبرون من أفضل شرائح المجتمع ودورهم مقدر ومشكور غير منكور بكفالتهم لأسرهم ومساعدتهم للشرائح الضعيفة من المجتمع وتقديمهم للخدمات والتنمية المحلية في مناطقهم ولوطنهم , وكان بالأمكان أن يرفدوا بتحويلاتهم الخزينة العامة أموالاً طائلة بالعملات الحرة ، ولكن في ظل وجود سوقين للدولار أحدهما رسمي والآخر أسود فإذا كان سعر الدولار في الأسود مثلاً أربعمائة جنيه ، وفي الرسمي ثلاثمائة خمسة وسبعين جنيهاً فأن الفرق بينهما خمسة وعشرين جنيهاً فمن المتوقع أن يبدل مامعه في السوق السوداء فإذا أراد مثلاً تغيير أربعة آلاف دولار يكون الفرق بين السعرين مائة مليون جنيه بالقديم أي مائة الف بالجديد . وهنالك آفة كبيره تتمثل في مهربين للذهب والسلع المدعومة من الدولة إلى خارجها خصماً علي حق المواطن الذي يكدح من أجل لقمة عيش شريفة ، وقبل فترة صرح الفريق أول حميدتي النائب الأول لرئيس مجلس السيادة بأنهم سيخوضون معركة شرسة مع السوق السوداء للدولار وأما أن ينتصروا عليه ويصرعوه وإما أن ينتصر عليهم ويصرعهم وبكل أسف فأن السوق الأسود قد هزمهم وأنتصر عليهم ، وهو كالفك المفترس والأسد الجائع واللبوة الشرسة فهل تتم هزيمته هذه المرة بتضافر الشعب والحكومة أم أنه سيهزم الجميع لاقدر الله بالضربة القاضية ؟ !
المصدر: صحيفة الانتباهة