جاء قرار إعلان تعويم الجنيه مفاجئا للجميع فيما يخص توقيت إعلانه حيث كانت كل التصريحات وآخرها من وزير المالية الجديد أن الحكومة ستعمل على عدم زيادة الأسعار وإلقاء المزيد من العبء على الناس ولكن على النقيض من ذلك حدث ما كان متوقعا واعلن القرار بشكل رسمي وبدأ فعليا العمل به.
أولا، وبغض النظر عن توقيت صدوره، لنتفق على أهمية توحيد سعر الصرف بدلا من اسعار الصرف المتعددة وضرورة ان تكون قيمة العملة الوطنية حقيقية في مقابل العملات الأجنبية الأخرى وان تتحدد قيمتها بناء على عوامل العرض والطلب بدلا من السعر الثابت المحدد سلفا من البنك المركزي والذي لا وجود له في واقع التعاملات المالية حيث يسيطر سعر السوق الموازي.
أيضا سيساهم وجود سعر صرف موحد وحقيقي للجنيه على التعاون المثمر مع المنظمات الدولية المانحة والمقرضة، كما سيشجع دخول رؤوس الأموال الأجنبية للإستثمار في السودان ويمهد الطريق لجذب تحويلات السودانيين العاملين بالخارج.
كلنا يعلم ان العملة الأجنبية في الآونة الأخيرة أصبحت تستخدم كمخزن للقيمة وليس كوسيلة دفع للتجارة الدولية وذلك بسبب عدم رغبة البعض في الاحتفاظ بمدخراتهم بالعملة المحلية خوفا من انخفاض قيمتها، ولذلك وجب إصلاح هذا الوضع الخاطيء واستعادة الثقة في العملة الوطنية من خلال هذا الإجراء وايضا لكي تعود العملة الأجنبية مجرد ورقة نقدية للتبادل التجاري فقط.
شيء آخر سيساهم فيه توحيد سعر الصرف وهو إصلاح الخلل الحاصل في الميزان التجاري والذي يبلغ العجز به اكثر من اربعة مليار دولار وهو يعني ببساطة أن ما نستورده يفوق ما نصدره للخارج بهذا المبلغ الكبير، فسعر الصرف الحقيقي سيساعد على توسيع بند الصادرات وزيادة قدرتها التنافسية مقابل منتجات البلدان الأخرى إن تمكنا من ضبط التكلفة وتحسين الكفاءة الإنتاجية من خلال الاستغلال الأمثل للموارد والاستفادة من الميزات التنافسية العديدة التي تمتلكها بلدنا من حيث وفرة هذه الموارد وتنوعها.
وهنا يجب الإشارة إلى أن زيادة الصادرات وجودتها تتطلب إصلاحات ومعالجات جذرية للمشاكل المتعلقة بعلاقات الإنتاج والمتمثلة في الرسوم والجبايات ومراجعة شروط التمويل المجحفة من قبل البنوك لتمويل الزراعة والصناعة وصغار المستثمرين وضرورة تسهيل الحصول على مدخلات الانتاج بأسعار مدعومة ومكافحة الفساد المستشري في هذا الجانب، وهذا يتطلب إجراء معالجات فورية ومراجعة شاملة لكل السياسات المطبقة حاليا والعمل على إيجاد حلول لكل هذه القضايا التي ظلت دون حلول لفترات طويلة.
وحتى تكون الأمور واضحة فإن الهدف المرتجى من تعويم العملة وتحديد سعرها الحقيقي هو تشجيع دخول الاستثمارات الأجنبية وكذلك إزالة التشوهات الهيكلية في ميزان المدفوعات بإصلاح الخلل في الميزان التجاري وعليه يجب ان تفضي هذه العملية إلى تحريك وإنعاش الإقتصاد وزيادة الإنتاج والتصدير بكثافة للخارج ليعود ذلك على البلاد بالعملة الأجنبية لبناء احتياطي يمكنها إستخدامه في حالات الطواريء والأزمات وايضا التدخل لحماية العملة الوطنية عند الضرورة، بالإضافة لتوفير احتياجات الاستيراد من السلع الاستراتيجية والأساسية.
اذن ما هو المطلوب لعبور هذا الإختبار؟
1) ينبغي على السلطة السياسية توجيه الأجهزة المختصة بتبني خطة الإصلاحات المطلوبة والقيام بما يلزم نحو مكافحة التهريب من خلال أحكام الرقابة على المعابر البرية والمنافذ الجوية ويجب أن تعلن الحرب على التهريب والفساد في كل أجهزة الدولة من خلال الإعلان عن ذلك صراحة وتبنيه كمبدأ لا حياد عنه وبذلك سيعلم الكل ان لا تسامح ولا تهاون مع هذه الممارسات وبالتالي سينصلح الحال.
2) على وزارة المالية العمل بحزم لتشديد الرقابة على تحصيل الإيرادات عن طريق ضبط ومراقبة الأنظمة الداخلية بالوزارات والمؤسسات الأخرى وربطها بالإدارة المختصة في الوزارة والعمل على محاربة اساليب تجنيب الأموال من كل الجهات والالتزام الصارم باعتمادات الصرف المجازة وهذه مسألة ليس بالمستحيلة ويمكن ان يتم التأكد منها من خلال التقارير الدورية، والعمل بجد لتحقيق المؤشرات المستهدفة في الموازنة وعدم تجاوز حدود الاستدانة او تمويل المصروفات بالعجز خارج المبلغ المجاز.
3) المطلوب من البنك المركزي ان يحسن إدارة ما بيده من عملات اجنبية وذلك بالمحافظة عليها والعمل على تنميتها لتكون نواة لبناء الاحتياطي المطلوب من خلال بسط سيطرته على حصيلة الصادر والاستفادة مما توفره التكنلوجيا في هذا الجانب وإنشاء نظام إلكتروني موحد يربط إدارة حصيلة الصادر مع وزارة التجارة والبنوك والمعابر البرية والمنافذ الجوية لمتابعة توريد الحصيلة ومحاسبة وردع المخالفين.
يجب تحليل البيانات بشكل علمي لسد الثغرات وإتخاذ القرارات الاستباقية المناسبة لإنجاح التجربة ومعالجة أوجه القصور والإستفادة من الأخطاء من خلال التقويم المستمر للتجربة.
4) للعاملين بالخارج اقول، تمر بلادنا بتحولات كبيرة واصلاحات اقتصادية شاملة تهدف من خلالها لبناء اقتصاد قوي ومعافى ينعم من خلاله كل المواطنين بخيرات بلدهم وقد جاء دوركم الآن لدعم هذا التوجه الوطني الذي يعتمد نجاحه على التزامكم الطوعي بإرسال التحويلات الشهرية لاسركم واهلكم من خلال البنوك والصرافات المعتمدة داخل السودان وايضا التفكير الجاد في الاحتفاظ بمدخراتكم في البنوك المحلية والعمل على إستخدامها في إنشاء مشاريع استثمارية وصناعات داخل السودان.
تبقى أن نقول ان توحيد سعر الصرف من خلال نظام التعويم المدار للجنيه يمثل خطوة هامة في طريق تحقيق الإصلاحات المنشودة والتي بلا شك ستصحبها بعض السلبيات التي تظهر عادة مع تطبيق مثل هذه الإصلاحات الاقتصادية خاصة في بدياتها واهمها الارتفاع المتوقع في الأسعار ولذلك لا مناص للحكومة من القيام بواجبها من خلال برنامج الحماية الإجتماعية للشريحة الضعيفة والتي تمثل الأغلبية من المواطنين واهمية إنشاء المجمعات الاستهلاكية التعاونية التي توفر السلع الأساسية بأسعار معقولة وتوسيع نطاق انتشارها بالإضافة لبرنامج الدعم النقدي المباشر للأسر.
اخيرا، نشيد بتوجه السلطات المالية لإنشاء بورصة الذهب وبورصة السلع الاستراتيجية وما سيترتب على ذلك من آثار إيجابية والقضاء على آفة التهريب التي تبدد الكثير من الموارد، بالإضافة للخطط والإجراءات الأخرى التي تم الإعلان عنها في هذا الشأن.
المصدر: صحيفة الانتباهة