اخبار السودان لحظة بلحظة

يوليو مشاهد ما قبل الوعي

مجدي عبد العزيز - الرواية الأولى

كنت أروي من قبل أن أسرتي الكبيرة وسكان حي الملازمين الذين يجاورون ( هنا ام درمان ) تسجل ذكرياتهم وخواطرهم احداثا ولحظات سعيدة وعزيزة مرتبطة بوجود دار الاذاعة السودانية في هذه المنطقة اضافة إلى التلفزيون والمسرح القومي خاصة في عقدي السبعينات والثمانينات المنصرمين..
فالمسرح القومي في عهده الذهبي كان احد مواقع الجذب الترفيهية والثقافية المهمة لسكان العاصمة المثلثة ومن ضمنهم سكان الملازمين ، فكل الأسر تحمل ذكريات حضورها ومشاهداتها للأعمال المسرحية الخالدة أو الحفلات الغنائية لكبار المطربين أو المهرجانات أو العروض القادمة من الخارج ..
كذلك من المشاهدات اليومية للسكان في الشوارع المؤدية إلى بوابة الاذاعة رؤية المذيعين والمطربين والشعراء والمبدعين الذين ارتبطوا بدار الاذاعة ، فتجد من يشير إلى أن العربة الهيلمان القادمة من على البعد هي لأبو داوود أو الآتي ( كداري) من شارع ازهري بمشيته المميزة هو عبد الكريم قباني أو القصير القادم من داخل الحي هو المذيع عمر عثمان، أو صاحب الصوت المجلجل بإلقاء التحيا هو أحمد سليمان ضو البيت ، وذاك هو الفاضل سعيد ، وهؤلاء نجوم برامج الأطفال الجد شعبان وجحا ، ومشاهدات تتري تنبئ بالحميمة والتواصل الوجداني والتأثير الواضح للإذاعة وما جاورها على جمهور المتلقين عبر الأثير أو الميكرويف أو الخشبة .. رحم الله الذين رحلوا وبقيت آثارهم واطال الله عمر من بقي ومتعه بالصحة ..
ليست فقط الأحداث السعيدة واللحظات الوردية المرتبطة بدار الاذاعة هي التي رسخت في اذهان وخواطر أهل الحي العريق والأحياء المجاورة بل هناك لحظات رعب وخوف وفقدان أمان كانت تفاصيلها أكثر رسوخاً في ذاكرة الملازمين ،، أن تصحو من نومك في الصباح الباكر مفزوعاً بصوت انفجار دانة دبابة تخلع القلوب خلعاً ، أو ( تضرسك ) حتي الرجفة ( كرررة ) رشاش متوسط لا محالة أن حالات ( ضرب اللخمة ) والهذيان اللا إرادي بالسؤال المتكرر ( في شنو? ) هي التي تكون سيدة الموقف .
احتلال الإذاعة والسيطرة عليها واذاعة البيان الأول كان هي الخطوة التقليدية والأهم لكل محاولات انتزاع السلطة أو إرجاعها في كل ما سجله التاريخ القريب من احداث من هذا النوع – وسكان الحي خارج الحسابات بالطبع -.
ذاكرتي الغضة في مرحلة اللا وعي السياسي – الطفولة وبداية الصبي – سجلت لحظات رعب وساعات خوف سببها الاول جوارنا لدار الإذاعة ، وسببها الآخر الجلبة وذعر من حولك دون فهم ما يجري ..
إنقلاب الشيوعيين في ١٩٧١ بصراحة ذاكرتي كانت فيه ( طشاش طشاش ) فكنت ارزح في الطفولة الا من حدث سقوط كباية زجاجية بها لبن من يدي لحظة دوي صوت مخيف ، صارت مثار تندر وسخرية وضحك على شخصي إلى يومنا هذا .
حركة المرحوم حسن حسين في ١٩٧٥ كنت في مرحلة التلمس والجراءة حيث خرجت إلى الشارع قفزاً مع الخارجين لحظة الأحداث وركضت إلى مرمى البصر على ميدان البحيرة الذي كانت تعبره ثلاث مدرعات علمت لاحقاً أن اسمها صلاح الدين ، وسمعت احد الجيران يصيح أن من بالدبابة الأولى وقميصه مفتوح هو ابوالقاسم محمد ابراهيم وعلمت بعدها انه أحد ( الثوار الأحرار ) ..
اما ما جرى في مثل هذا الْيَوْمَ ٢ يوليو ١٩٧٦ م والايام الثلاثة التي تلته ( فعينك ما تشوف الا النور ) .. فهرجلة العزف على الأسلحة في الْيَوْمَ الاول والاصوات التي تتنوع بين الداوي والحاد والزخ الطويل والقصير هي كانت ( حديث الصباح ) لذلك الْيَوْمَ المرعب ، ولما ( ما جابوها البر ) بعد عدة ساعات مع كثافة أصوات الانفجارات والإطلاق الناري كان قرار الاسرة الخروج من الملازمين و ( اللجوء ) إلى احد منازلنا بحي الركابية والمسيرة إلى هناك تقفز إلى ذهني لاحقاً كلما شاهدت الأحداث في سوريا أو العراق أو اليمن ،، ومن بعد ( هنا امدرمان ) تخبر بمن اسمه محمد نور سعد – رحمه الله – قائداً للمحاولة ،، والعودة المسائية لبعض أفراد الاسرة للمنزل كان ارعب ، فيتحول ظلام الليل إلى اضواء ، وتسمع أصوات ارجل المقاتلين بين كر وفر وتراها من تحت فتحة باب الشارع ، وصباحاً تحلق طائرة على مستوي منخفض ونسمع من يقول انه ( الصادق عائد ) ، وفِي الْيَوْمَ الثالث تعود سلطة مايو ونسمع بالمرتزقة – والغزو الليبي المندحر ، وبعدها لأكثر من أسبوع تعيش الملازمين في حالة حصار وتفتيش بحثاً عن المرتزقة خاصة في المناطق التي بها قصور آل المهدي ورموزهم ،
وتحفر الذاكرة ذاتها حفراً لتسجل حتي لا تنسي ما عايشته قبل أن يسجل الرواة والمؤرخين ، وقبل أن ينبني الوعي عندي وتتفكفك الطلاسم بمرور الزمان ، ونعلم بتحالف الجبهة الوطنية ، ( وصنديد دار الهاتف رجع صداه النيل ) ومعركة المطار ، وتبادل الاتهامات بالخيانة ، وابتسامة القذافي الخبيثة ،،
وأخيراً تجيء العبرة باستحالة حل مشكلات الوطن بعد تكرار التجارب الفاشلة بحمل السلاح وإرعاب الآمنين ( من أي جهة كانت ) وان التعامل مع الأجنبي هو تجييره لجهد الساخطين فقط من اجل مطامعه ومصالحه ،، والي جب التاريخ يا مشاهد . ولَك الأمان يا ملازمين ،، والى الملتقي

اترك رد