اخبار السودان لحظة بلحظة

لا تقتلوا أهداف الثورة العليا بالأهداف المرحلية

استهدفت جميع الثورات التي اندلعت في العالم في المقام الأول الإطاحة بالأنظمة المتجبرة والمتسلطة وإقامة انظمة تضمن لكافة المواطنين العدالة والمساواة والسلام والاستقرار ، حتى الرسالات النبوية هي ثورات عظيمة أسست لمعاني العدالة والمساواة في أزمنة ساد فيها الظلم والتمييز .

الثورات العالمية الشهيرة الفرنسية والروسية والامريكية جميعها قامت من أجل الإطاحة بالحاكم المستبد ، وإنشاء نظام عادل يمثل الشعب ، اذا كان هذا شأن كل الثورات فإن ثورة ديسمبر ليست استثناءا، غاية ثورة ديسمبر الأسمى هي الاطاحة بدكتاتورية البشير واقامة نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تبادل السلطة سلميا بين المواطنين و يحتكم فيه الجميع إلى قانون لا يميز بين الناس بالعرق او اللون او الدين ، وتطبق فيه معايير العدالة والمساواة .

أهداف ثورة ديسمبر العليا هي الاهداف الازلية و الخالدة للثورات و اختصارا تتلخص في ثالوث : السلام ، حكم القانون ، والتبادل السلمي للسلطة عبر الانتخابات ، وهي جميعا أهداف سامية تقود إلى بناء الدولة الموحدة التي يشترك جميع مواطنيها في صناعتها ، الدولة التي تقضي على الأسباب المزمنة للحروب والفساد ، الدولة التي تتمتع بقابلية التطور والصعود المستمر نحو القمة .

مهم تنبيه الجماهير وخاصة الأجيال الجديدة إلى أن هناك أهداف عليا دائمة وأهداف مرحلية مؤقتة للثورة ، وأن الأهداف المرحلية المؤقتة يجب أن لا تعلو فوق الاهداف العليا والا فشلت الثورة ، هذا التنبيه مهم لأن هناك من يعمل ليل نهار على تغبيش الطريق نحو غايات الثورة العليا ، ويفتح باستمرار مسارات جديدة تنقل الجماهير الى اهداف وقتية مؤقتة تستهلك طاقة الثورة و الجماهير ، وتشيع روح الاحباط والسلبية ، وتجعل الثورة تخور حتى يسهل الانقضاض عليها.

هناك كثير جدا من الأهداف المرحلية المؤقتة للثورة ، كشخص رئيس الوزراء او من هو رئيس المجلس السيادي ، أو هل العسكر يكونون جزءا من الحكومة الانتقالية ام لا ، والقصاص لضحايا الثورة . رغم ما يظهر على الثوار من تشنج تجاه القصاص ، ولكنه في الحقيقة قضية مؤقتة لا ترتقي إلى عظم قضايا السلام والدستور واستدامة التبادل السلمي للسلطة ، القصاص لضحايا الثورة قد يشفي صدور الثوار الحاليين ولكنه لن يكون سوى مجرد خبر صغير في المستقبل قد لا ينتبه إليه احد ، تماما كما لا ينتبه ثوار اليوم إلى تاريخ القصاص من قاتل الشهيد القرشي في ثورة أكتوبر ١٩٦٤ او قتلة شهداء ثورة أبريل ١٩٨٥ ، التضحيات هي الثمن الموضوعي مقابل انتصار الثورة والاطاحة بالدكتاتور ،الإصرار على الاقتصاص للشهيد تجعله مجرد قتيل جنائي وليس قتيل ثورة خالدة ، الاقتصاص للشهداء يحولهم من شهداء إلى ضحايا ، وهو منهج فيه عطب ، وإلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة منتصرا وعفى عن من قتلوا عمه حمزة واصحابه الأكارم كان مخطئا ! او حين عفى الأنصار عن نميري الذي قتل إمامهم كانوا مخطئين! أو أن مانديلا الذي عفى عن سجانيه كان مخطئا ! كلهم غير مخطئين ولكنهم علموا أن الانتقام يفقدك قيمة النصر ويساوي بينك وبين القتلة .

قرأت عددا من كتابات الاستاذ الصادق سمل والد الشهيد عبدالرحمن ، وجميعها مليئة بالسمو الروحي ، وبالتسليم بأن إبنه لم يستشهد ليقتل بدمه شخص آخر ، بل استشهد من أجل غايات عليا ، تحقيقها هو القصاص الفعلي من القتلة ، القتلة ليس فردا ولا فردين بل منهج تاريخي وثقافة متجذرة تتغذى من مناخات الدم والغضب والانتقام والتشفي، وتموت سريعا في مناخات السمو والتجرد والعفو والتصالح ، هذا والد الشهيد الصادق سمل بهذه الطهرانية وأظن أن جميع أسر الشهداء كذلك ، ولكن لا تبتعد منهم الا خطوات لتجد شخصا لا علاقة له بالشهداء ولا يالجرحى حين تجيء سيرة الشهداء ( يتمرمق ) في التراب ، يشق الجيوب ، ويلطم الخدود ، ويحلف بأغلظ الايمان ان حق الشهيد هو القصاص من الذي قتله بتلك الطلقة!! وكان الذي قتله هو ذاك الجندي الذي صوب سلاحا تعود على تصويبه في كل معاركه وأطلق الرصاصة ، الرصاصة تلك لا تمثل بارودا قاتلا بل تمثل إرثا مستمرا عبر التاريخ ، إرث القتلة من لدن قابيل ولد ادم والى ان تقوم الساعة ، القتل الذي يحاول حماية دولته ، دولة الفساد والاستبداد ، فإذا استطعنا إزالة تلك الدولة فلا حاجة لاغتيال مطلق الرصاصة ، فقد قتلنا البيئة التي أفسدته ، واجلا ام عاجلا حين ننشيء دولة العدالة والحرية ستغرس تلك الأيدي التي أطلقت الرصاصة زهرة في أرض الوطن ، فالانسان إبن البيئة ، من عاش في وسط القتلة سيحترف الاغتيال ، ومن عاش في وسط يزرع الزهور سيزرع الزهور .

sondy25@gmail.com

اترك رد