أعده: محمد إسماعيل
حدثت بعد ثورة ديسمبر المجيدة تغييرات كبيرة في التلفزيون القومي السوداني، خصوصاً فيما يتعلق بالأخبار والشؤون السياسية.
وإذا كانت بعض الوجوه قد تغيرت، فهل تغير وجه شاشة
التلفزيون القومي؟ وهل تواكب برامحه تطلعات الثوار، ورجل الشارع، الذي يريد ان
يلمس معاناته وقضاياه الحياتية متبلورة في شاشتنا البلورية؟
ماذا تغيّر في تلفزيون السودان، سؤال توجهنا به إلى
عدد من الإعلاميين وأهل الثقافة ممن يتابعون التحولات، ويلمسون أثرها في الواقع
بما لديهم من معارف، وتجارب واسعة.
الروائي عمر الصائم : التلفزيون اجتهد اجتهاداً قاصراً وغير خلاق
هذا جزء من السؤال الأكبر، ماذا تغّير في الدولة
السودانية بعد الثورة؟ بغض الطرف عمن سيدفع بالآخر نحو التغيير، الدولة أم
التلفزيون؟ وأيهما أسبق في التأثير في الآخر؟
والانطلاق من ما بعدية الثورة يفترض أن هنالك تغييراً
هائلاً حدث في تركيبة الدولة، مما يستوجب حدوث ما يناظره في جهاز التلفزيون.. وإذا
انطلقنا من هذه الفرضية، سنجد أن التغيير المتوقع بتأثير الثورة سيكون مشابهاً لها
من حيثيات مختلفة.
من حيث الرسالة الإعلامية؛ فسيقدم التلفزيون ما يتسق
مع الثورة، ويغذيها، من حيث الشكل البرامجي والهيكلي؛ سيقوم بتطوير مهارات كادره
وقدراته الإبداعية، وإفساح المجال لعناصر إعلامية كانت تعبر عن الثورة ومشروعها.
في الحيثية الأولى
نجد أن التلفزيون اجتهد في التعبير عن أهداف الدولة ما بعد الثورة، ونقلها للجمهور،
ولكنه اجتهاد قاصر وغير خلاق؛ وذلك لأن أغلب الموظفين بجهاز التلفزيون هم موظفون
ومتعاونون يعوزهم التدريب، ويفتقر كثير منهم لحساسية التغيير، ويفتقد بعضهم الإيمان
بالثورة نفسها.. والإعلام هو إبداع ومواقف قبل أن يكون تغيير جلد للاتساق مع
الأنظمة الحاكمة فقط، وللأسف هذا ما ظلت الغالبية منهم تفعله مع الحكومات تحت زعم
حيدة الإعلامي.
وحول الحيثية المتعلقة بالهيكلة وإعادة البرمج: لم
يحدث شيء؛ لأن هذه المسألة مرتبطة بالدولة وهي مقعدة ثورياً، وتزحف ببطء نحو أهداف
الثورة. والسبب يعزو إلى طبيعة الثورة نفسها، فبرغم التضحيات الغالية أخذت الثورة
– وأنا لا أرفض ذلك- المنحى التدريجي في تفكيك النظام السابق، وهذا ما يجعل
التغيير يمرّ بمراحل متتابعة كموجات في نهر كبير.
ولو أن الثورة لم تدخل في تسويات، ونجحت في إحراز
التغيير السياسي المنشود بضربة لازب؛ فإنه لا يمكنها أن تغيّر المجتمع ومؤسساته بالضربة
ذاتها، ولابد أن يتم ذلك وفق عملية هائلة تنطلق من مسؤولية أخلاقية، وتقاد بأمانة
نحو أهداف الثورة المعلنة، والتي فدتها أرواح الشهداء.
قياساً على الثورة في أي
حال من أحوالها، فإن إنهاض وتطوير التلفزيون يتم بتمرحل وضمن عملية سياسية وفنية
مترابطة ومركبة، تعتمد على تأهيل العاملين، ثم رفدهم بآخرين جدد، وتطوير أجهزته
التقنية اللازمة لأي تحديث له سواء قبل أو بعد الثورة..
إذن لم يحدث تغيير كبير، إلا أن التلفزيون تموضع في
محل خدمة الشعب والثورة، بأقل قدرة، وبأصغر مساحة للحركة والتعبير، وهي موضعة تصلح
أن تكون أساسا لتغيير حاله وتطويره؛ ما دمنا قد ذهبنا في سكة التمرحل في إحداث
بالدولة عامة، ولأهميته ودوره في التأسيس للتغيير ودفعه، فإنه يجب إيلاء اهتمام
أكبر من الدولة بالتلفزيون، وهذا ما أراه إلى الآن أقل من المطلوب.
رئيس تحرير جريدة المستقلة توفيق البدري: الارتجال عنوان الشاشة
من خلال القدر غير اليسير لما شاهدناه من برامج القناة
القومية بعد إسقاط النظام البائد يمكننا القول إن العنوان الأبرز للشاشة هو
الارتجال.. وهذا الارتجال مرده غياب الاحترافية التي تؤسس لسياسة إعلامية تذهب في
اتجاه الإجابة عن سؤالين: ماذا نبث؟ وكيف نبث؟ باستصحاب ما حدث من تغيير، ثم وضع
خارطة وفقا لذلك.
في تقديري أن أمر القناة القومية يجب تداركه وفقاً لرؤية متخصصين، وألا يترك للارتجال، وكذلك ضخ كوادر من أهل التخصص والموهبة الحقيقية في مجالات التقديم والإعداد والإخراج.
الصحفى الزبير سعيد :لم يكتسب بعد صفة القومية
الوضع في التلفزيون القومي لم يتغير بالشكل الذي
يتناسب ومطلوبات الثورة..
بدأ التلفزيون القومي يتعافى من وباء تبعيته العمياء
للحزب الحاكم، إبان فترة حكم الرئيس المخلوع، فقد تأثر مثل غيره من مؤسسات الدولة
التي سعى الحزب الحاكم حينها إلى جعلها أجهزة تقدم مصلحة الحزب، وعصبته على مصلحة
الوطن والشعب.
الوضع في التلفزيون القومي لم يتغيّر بالشكل الذي
يتناسب ومطلوبات الثورة، وما يحدث يعدُّ مؤشرات.
إن السودان بحاجة إلى تلفزيون قومي بمعني الكلمة، وأن
يرى كل الشعب مختلف ثقافاته ومعتقداته وسحناته من خلال ذلك الجهاز الذي فشل طوال
سنوات حكم الإنقاذ في خدمة الوجدان القومي، إذ افتقد للرؤية الاستراتيجية التي
تساعد في خدمة القضايا القومية.
التلفزيون القومي تغيرت
قيادته مع الاستعانة ببعض الكوادر الثورية، إلا أنه بحاجة إلى هيكلة عاجلة، ومن ثم
وضع رؤية تجعل التلفزيون (قومياً) بصورة فعلية، وأن ينعكس ذلك من خلال الخارطة
البرامجية التي تعكس التنوع الثقافي والتباين الاثني والاجتماعي، وتؤسس للاعتراف
بذلك، مع ضرورة التصدي الجاد لسياسة ترسيخ الاستعلاء الثقافي الذي ظل يمارسه الوسط،
وهو ما ضاعف من حالة الغبن الاجتماعي في كل أطراف السودان.
القاص معاوية قيلى :لا جديد مع نمط الأداء العقيم والكئيب
بعد سقوط النظام، كان مأمولاً أن يجد الزخم الثوري
سبيله أيضاً نحو التلفزيون القومي، وأن يري المشاهد تغييراً حقيقياً لا زائفا على
هذه الشاشة، و لكن الواقع أن أداء هذا الجهاز ظل قاصراً عن طموحات الثوار، ربما
حتي اللحظة الراهنة وكمشاهد عادي أرى ان تلفزيون الثور ة ينبغي أن يكون كالآتي:
أولاً: نريده جهازاً قومياً يعكس التنوع الاثني والثقافي
في السودان .
ثانياً: يجب أن يفتح التلفزيون أبوابه لكافة المبدعين
الحقيقيين بكافة اتجاهاتهم ومشاربهم.
ثالثاً: لا ينبغي أن يشمل التغيير الوجوه و القيادات،
بل يجب ان تحدث ثورة علي مستوى الخارطة البرامجية، ويجب ان يكون المرتكز الأساسي
هو نشر المعرفة، والتنوير، والوعي بقضايا الديمقراطية والتنمية والسلام .
رابعاً: لا يمكن تخيّل تلفزيون قومي جديد في وجود ذات
النمط الأدائي العقيم والكئيب النشرات الاخبار، ونفس الشعارات البرامجية الخالية
من الإبداع، ويجب ان تحدث ثورة على مستوى المظهر.
الناقد عزالدين ميرغني: حرٌ وأكثر قومية
بعد
ان كان التلفزيون حكراً على الموالين للنظام، أصبح الآن حراً وأكثر قومية، وأصبح
فيه النقاش الجاد حول قضايا الوطن وهمومه العامة، مع طرح المشكلات التي تواجه
الوطن بجدية، وطرقة أكثر عمقاً عما مضى، وذلك بحرية كاملة، ومن دون خوف. ولكن تنقص
بعض الكوادر التجربة والتدريب، ويجب أن يعمل التلفزيون على توفير كوادره الخاصة القادرة
على العمل المبدع، ويتطلب ذلك الاحترافية والمهنية العالية. كما أن الجانب الفني
يحتاج إلى تدريب عالٍ؛ لأن هذا القطاع الإعلامي الرسمي قد أهمل زمنًا طويلاً،
خصوصاً في جانب الإخراج والصوت والإضاءة. وفي جانب المنوعات يجب استقطاب الكفاءات،
والمثقفين لإعداد هذه البرامج، التي تحتاج إلى معد مثقف ومواكب لما يحدث في العالم،
وكذلك لإثراء جانب التعدد الثقافي الذي يميز بلادنا من غيرها، كما يجب التركيز في
جانب الدراما والافلام الوثائقية التي تجعل التلفزيون مواكباً ومنافساً للقنوات
الخاصة التجارية .
الناشط السياسي محمد حمزه: ارتباك أوهن الثورة
تلفزيون السودان بوصفه مؤسسة ورث شأنه شأن جميع
المؤسسات تخريباً ممنهجاً، كما أن حساسية أجهزة الاعلام جعلتها في مرمى نيران
القوى الظلامية من ناحية تجريفها، وتشريد كوادرها، بل العمل علي محو الذاكرة
الجماعية، والتعدي علي الوجدان الجماعي عبر تجريدات مهووسي النظام السابق، في
تجيير التلفزيون في التبشير بالمشروع الحضاري بل حرق كنوز مكتبة الإذاعة
والتلفزيون، وطالت تلك التجريدات كافة العاملين وتعيين أصحاب الولاء، وغابت
الملامح المدنية من التلفزيون عمداً وتم تجييشه في سنوات الإنقاذ الأولى، حتى أصبح
من المنصات المهمة لهدم مشروع الدولة المدنية، ولهذا ورثت السلطة الانتقالية هذا الركام
والحريق الهائل، ورثت تركة ثقيلة أدت لسنوات طويلة إلى عزوف الناس عن التعامل مع
هذا الجهاز الذي تحول إلي خلية من خلايا تنظيم الجبهة الإسلامية، حتى أصبح خالياً من
كل ما ينتمي إلى ثقافة وإرث الشعب السوداني.
وحين تولي وزير الثقافة والإعلام السيد فيصل محمد صالح
وهو ابن مؤسسات الثقافة والسيد الرشيد سعيد وكيل الوزارة هذه الأعباء، كان الواجب استلهام
نبض الثورة مبكراً، والعمل على تجفيف منابع وخلايا النظام البائد، إلا أن خطواتهما
شابها كثير من الارتباك، الذي أوهن الثورة وجعل هناك تمدد كبيراً، وطمأنينة لدي
محسوبي النظام.
ومن مظاهر الارتباك:
- – التلكؤ
في إقالة إسماعيل عيساوي مدير التلفزيون لفترة طويلة بعد نجاح الثورة، وهذا جعل
هناك شكوكاً كبيرة ومشروعه في الكفاءة الإدارية للمسئولين، وقدرتهم على تعديل مسار
التلفزيون، فاستمرت ذات الوجوه وذات الخارطة البرامجية لفترة طويلة، مما عزز من استمرار
القطيعة مع المشاهد، وكان الإحساس عميقاً بأن هذا الجهاز مازال لا يمثل الثورة
والثوار. - عدم تفعيل هذا الجهاز وتهيئته ليؤدي دور
منافذ الثورة وخطابها، بتنوع برامجه الممثلة لأحلام وطموحات الثورة والثوار. - وجود أعداد كبيرة من منسوبي النظام البائد
في كل مفاصل الهيئة كان ومازال عائقاً أمام تحويل الجهاز إلى منصة ثورية. - رغم هذا التلكؤ، أرى ان القائمين على
الأمر قد انتبهوا إلى خطورة ما يحدث، فبدأ التلفزيون في استرداد القليل من عافيته،
وتغيير في بعض الوجوه، وبث برامج جديدة بروح الثورة رغبة في إعادته إلي سيرته
الأولى.
والخلل كان في الأساس أن الوزير والوكيل لم يستعينا
بمجلس استشاري من خبراء في مجال الإعلام من ذوي الخبرات الإدارية الرفيعة لتفكيك
هذا التمكين.
وهناك وضع مشوه في عموم الساحة الإعلامية، إذ مازالت منابر
كثيرة مثل الصحف الصفراء وبعض القنوات الفضائية تنفث سمومها حتى الآن، ربما يجب
تفعيل آليات تفكيك هذه المنظومات القميئة بكاملها.
وحساسية هذه الأجهزة الإعلامية تجعل من إصلاحها صمام أمان
للثورة.
إن الإصلاح حتماً سوف يقود إلى تغييرات هيكلية وجذرية
تحقق الإصلاح الشامل. واقترح أن تستعاد بعض البرامج الجاذبة من فترة الديمقراطية
السابقة لعلها تسهم في إنعاش هذا الجهاز، خصوصاً أن كثيراً من الكفاءات موجودة
ولديها الطاقة والحيوية للعمل الداعم للثورة.
وأرى أن هناك كثيراً من البرامج التي تبث حالياً تنقصها
الجودة الكافية على مستويات متعددة، مثل: مقدمي بعض البرامج حديثي التجربة
والخبرة، وأيضاً المادة المقدمة فطيرة وتحتاج للمراجعة، مع عدم تناسق الخارطة
البرامجية، وهو مؤشر إلى الاستعجال، مما يتطلب وضع معايير ناضجة لإنجاح هذا الانتقال
العسير.
وإصلاح الجهاز لا يعني بالضرورة العجلة، ولكن يستوجب
التمحيص وإشراك ذوي الشأن، وأعتقد أنه آن الأوان لتفعيل أدوات مثل السمنارات
والورش، ودعوة المهتمين بهذا الشأن، وخلق حراك فعال بدعوة الكفاءات إلى التشاور،
من أجل إيجاد المخرج.
كما أن تعزيز كفاءة التلفزيون والإذاعة يستوجب الاستعانة
بالكفاءات المهاجرة، التي تتوفر على خبرات كبيرة، وربما قد يكون المقابل المادي
غير مجز لهم، إلا أن هناك كثيرين على استعداد لدفع ضريبة الوطن.