قبل عدة سنوات سافرت وزوجتي في رحلة سياحية الى بعض دول أوروبا بدأت من المانيا وانتهت باسبانيا تلك البلاد التي يستهويني تاريخها خاصة حقبة دولة الاندلس عندنا كمسلمين بل هي جزيرة أيبريا عند الاسبان.
في
أوروبا استمتعت بمستوى المدنية والرقي ومناظر العمران الأبراج الشاهقة الجميلة
والشوارع الواسعة النظيفة ودقة النظام في الحركة. بل بهرت جداً بشعوب تلك البلاد
التي تتعامل بطريقة راقية وهدوء تام حيث يلاحظ عليهم المشغولية وسرعة ايقاعات
الحياة فلا يدقق في وجهكك أحداً كما نفعل نحن في بلادنا ومبادرة الغريب بفضولية
وسؤاله عن جنسيته ومن اين جاء؟ وماذا يريد بل نتطوع احياناً بمرافقة الغريب كدليل
له في التعرف على بعض معالم البلاد وقضاء حوائجه. وهذه ثقافة عامة نلمسها حتى في
ريفنا البسيط وقد تسمع تلك العبارة “اللخو من وين؟ “ويتم التعارف ويتبعه
احياناً طلاقات بأن تمشي معاي البيت أو تتغدى على حسابي فشتان ما بيننا والناس في
اوربا!!!
غادرنا المانيا / فرانكفورت التي قضينا فيها
أيام جميلة في ضيافة الأخ العزير المهندس أدم حسين آدم الذي كان يدرس الهندسة
الاقتصادية بجامعة فرانكفورت وكان لا ينقطع عن زيارتنا في الفندق يومياً ومرافقتنا
التجول في المدينة فالتحية له وهو الذي اصبح مواطناً المانياً ولا زال على هاشمية
وبشاشة أهلنا الجوامعة.
حطت بنا الطائرة في مطار مدريد الساعة الثانية
بعد الظهر قادمين من فرانكفورت وفي المطار لاحظت الفرق. حيث بقيت بعض أثار السلوك
العربي ، فهناك بعض العشوائية في الحركة ورفع الصوت في منطقة التاكسي.. فقد بادرنا
سائق تاكسي بالاسبانية التي لم أكن افهمها سائلاً عن وجهتنا ، التقطت منها (CITY
CENTRO)
وقدرت أنه يقصد وسط المدينة فاجبت عليه “YES” فاخذنا الى وسط المدينة ” ” Down town ونزلنا في فندق لا أتذكر اسمه.
مدريد مدينة جميلة كانت شمسها ساطعة مع وجود
بعض السحب. والمدينة فيها كل مرافق الترفيه وكان أكثرها اثارة مصارعة الثيران التي
تقام كل يوم أحد. وطبعاً تختلف أولويات السياح كزيارة النوادي الرياضية مثل نادي
مدريد أو المسارح وغيره. لكن كل ذلك لم يكن موضوع أهتمامي بل كنت متشوق للاطلاع
على أثار وتاريخ المسلمين والعرب الذي تركوه خلفهم في هذا البلد العريق من حضارة
إسلامية قامت على تولويفة من الحضارات السابقة مثل مصر الفرعونية /الحضارة
البيزنطية / الحضارة الساسانية في بلاد فارس، والتي أمتزجت فكونت منتوجاً حمل قيم
الدين الجديد فكان هناك فن الارابيسك والفسيفساء ومعمار البازليكا البيزنطية الذي أُقتبس
منه فن عمارة المساجد. فازدهر العصر الإسلامي بل تمدد لينتقل مع مؤسسي دولة
الاندلس فاضاء جيوباً في اوربا كانت مظلمة. أخذت استرجع معلوماتي في التاريخ
والثقافة فاتخيل مدينة قرطبة وغرناطة وقصور الحمراء وملوكها ومجالس الادب والشعر
تتقدمها سيرة الشاعرة الاندلسية ولادة بنت المستكفي بنت أحد الامراء العرب من أم اسبانية،
فجاءت شقراء بعيون زرقاء تقرض الشعر العربي وعقد المجلس الأدبية العامرة وهي تنثر
عبير شعرها الجرئ وربما القارئ يتذكر بعض من شعرها حيث تقول:
- انا والله اصلح للمعالي ….. وأمشي مشيتي
وأتيه تيها - وأمكن عاشقي من صحن….. خدي واعطي قبلتي من
يشتهيها
وقيل أنها كانت تكتب هذه الابيات في جرأة وتحدي
على طرف ثوبها. وكان يبادلها الحب الشاعر العربي بين زيدون حيث أنتهت العلاقة بينهما
بمآساة عاطفية. إذ هجرته الى امير جاهل
واسع الثراء ليس من قبيلة الشعراء، فاطلق ابن زيدون نونيته التي تباكى فيهاكثيراً
نذكر منها:
- أضحى التنائي بديلاً من تدانينا …… وناب عن طيب لقيانا تجافينا
- بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا …… شوقاً
اليكم ولا جفت مآقينا
بعد وصولنا الفندق أخذنا قسطاً من الراحة ، ثم
نزلت الى إدارة الفندق للاطلاع على جدول الرحلات السياحية التي تنظمها الوكالات
السياحية بالتنسيق مع الفنادق، فكان أول رحلاتنا التعرف على معالم مدينة مدريد
وكان خيارنا الثاني هو رحلة سياحية خارج مدريد الى مدينة Toledo) ) بالعربية “طليطلة”. وفي الصباح
الباكر ركبنا حافة سياحية ضحمة ذات كراسي واسعة وثيرة، مع محموعة من السياح
القادمين من مختلف دول العالم. كان منظر الركاب داخل الحافلة وكانهم معلقون قريباً
من سقف الحافلة. وكانت بسمات الترحيب توزعها علينا المرشدة السياحية والمضيفات.
وبخروجنا من مدينة مدريد في اتجاه طليطلة ، فاذا بالأرض والطبيعة وكأنك في ربوع
كردفان الغرة في موسم الخريف. فالرمال حمراء صافية اللون تكسوها الخضرة. نعم أنها
كردفان تماماً في فصل الخريف، حتى خيل اليّ أن أشجار الزيتون في المزارع على جنبات
الطريق انما هي شجر “الكرسان” المعروف في كردفان. ولكن بالتمعن في
المزروعات لم أجد مزارع الفول السوداني والدخن والكركدى رغم أنني شاهدت نبتة
“الحسكنبت”.
حلال هذه المناظر الجذابة أخذت أُفكر في بعض
الروايات التاريخية لإسم كردفان التي تقول أنه ربما أُخوذ من اسم قرطبة التي تكتب
بالانجليزية ( (Cordovan أهل قرطبة. والذي لم اقتنع به يوماً. لأن ما أعرفه وارجحه أن كلمة
كردفان مكونة من مقطعين “كرد” و “فان” فالجزء الأول
“كرد” هو أسم لزعيم النوبة في منطقة كردفان أي نوباوي مطلقاً. أما
المقطع الثاني “فان” بعامية أهل السودان فهي تعني قد أُستغفل أو خُدع.
وهذا قد ياخذنا الى تحليل طويل وفيم خُدع والمقال ليس مكانه.
خلال رحلتنا الى مدينة طليطلة بعبقها وتاريخها
العريق، أخذت المرشدة السياحية تتحدث عن بلدها جزيرة “ايبريا” اسبانيا،
حيث مجدت تاريخ اجدادها الاسبان وكونهم رواد رحلات الاستكشاف العظيمة التي قاموا
بها حول العالم وأشارت أنه في عام ( 722 م) تعرضت البلاد لغزو عربي إسلامي على
أثره بقيت البلاد تحت الاحتلال أكثر من (700) عام. ثم قالت ولكن بفضل إرادة
الوطنيين بقيادة الملكة “ايزابيلا” تم طرد الغزاة وتحررت البلاد فيما
سمي بالاسبانية (Reconquista الريكونكسيتا) حروب الاسترداد. إلا أنها في حديثها قد أنصفت المسلمين
حيث اشارت الى ازدهار الحياة الحضارية في عهدهم بما جلبوه من معارف وعلوم. إن
زيارة مدينة طليلة في ذاتها تاريخ يعكس عظمة مؤسسي هذه المدينة خاصة عندما تزور
مسجد باب المردوم ويشبه في بناؤه طرازمساجد القيروان والذي تحول بعد التحرير الى
كنيسة النورالتي أمتلأت بالتماثيل والايقونات الذهبية التي تشرح العقيدة المسيحية
وظلت بصمات وفنيات العمارة الإسلامية فيه واضحة. والحديث عن تفاصيل مدينة طليطلة
في الحقيقة يثير في نفسي الكثير من المعاني ويحتاج الى أكثر من مقال.
بعد حديث المرشدة عن تاريخ المسلمين في الاندلس
ولأول مرة بدأت أحس وتتصحح عندي معلومة أن العرب المسلمين في عهد الدولة الاندلسية
كانوا غزاة مستعمرين في نظر أهل البلاد. ومهما كانت المبررات عندنا كأصحاب رسالة
سماوية مأمورين بتبليغها ونشرها. فمن قبل كانت مبررات المستعمر الأوربي في استعمار
افريقيا هو مسئولية الرجل الأبيض في نشر الحضارة والمدنية. بهذا التصحيح الذي حدث
لي فجأة تيقنت فعلاً أن شق التيارعلم لانني لم أصل الى هذه الحقيقة طوال مراحلي
الدراسية واطلاعاتي الثقافية. فقد كنت أخذ بمسلمات ثقافية أن الاندلس عربية
إسلامية بكينا على فقدانها والتفريط فيها وكأنها مكة المكرمة أو المدينة المنورة.
ولا أدري هل هذا تضليل أم أن منهجنا التعليمي الثقافي مغلوطاً ؟ وهذا أمر بحاجة
للمراجعة. فربما كان تكثيف مادة الثقافة العروبية والتاريخ العربي في مناهجنا
التعليمية، جعلنا عرباً أكثر من العرب الآخرين وكان سبب تعقيد هويتنا اليوم وعدم
تصالحنا مع أنفسنا ؟
موضوع أن شق الديارعلم ذكرني بالندوات الثقافية
التي كانت تقام بدار الجالية السودانية
بالرياض مساء كل يوم اربعاء في الاسبوع. وهنا لابد من كلمة شكر وتقدير لاولي الامر
في المملكة العربية السعودية التي سمحت لنا كسودانيين بمثل هذه الأنشطة التي لم
يكن متاحاً للآخرين ممارستها. ففي ندوة الأربعاء التي كان يديرها مجموعة من أساتذة
الجامعات بالرياض منهم على سبيل المثال بروف عزالدين عمر موسى / د. مختار عجوبه /
د. الطاهر عثمان أدريس ومجموعة من الصفوة المستشار البشرى عبدالحميد، الأخ شيخ
الطاهر الفكي أبن ملولحة التي تقع سنار بالقرب منها كما يحلو له وصفها، والاخ فضل
الله دريبات وأحمد جبريل القوني وآخرون لايسع المجال لذكرهم.
في أحدي هذه الندوات كان المتحدث المبدع الدكتور
مختار عجوبة الأستاذ بجامعة الملك سعود. حيث روى أنه تخرج في جامعة الخرطوم وأظنه
اُبتعث لنيل درجة الماجستير أوالدكتوراه في مصر. فسافر كحال الكثيرين من المثقفين
السودانيين. سافر القاهرة وربما لأول مرة وهو مشحوناً بكونه السوداني العربي
الأصيل ( والكلام لدكتورعجوبه) من شمال السودان وربما أمتد نسبه الى العباس عم
الرسول. نعم هو ذلك الشاب العربي الفارس الذي نقرأه في التراث. وكان أول ما اصطدم
به هناك بعد أختلاطه مع بقية العرب أنه لايحمل ذلك الانف العربي المميز، بل أن لون
بشرته وشعره ليس كبقية العرب. ولتوه فاق وعرف أنه سوداني وبس. وأوجز وهو يحاضرنا
في تلك الليلة والمحاضرة الممتعة أنه لايتنكر لانتماءآته العربية الممزوجة
بالافريقية، منبهاً أن تكون لنا خصوصيتنا السودانية التي نتميز بها وهو محق في ذلك
واضيف من عندي أنه يجب استثمارها افريقياً وعربياً بشكل إيجابي في اطار محيط حيوي
يمكننا من العطاء والتطور دون التغالي في انتماءات فيها كثير من عدم الواقعية.
وحقيقة نحن بحاجة لتصحيح بعض مسلماتنا الثقافية التي يمكن أن يصححها الاغتراب زشق الديا. روكذلك لابد من إعادة صياغة منهجنا
التعليمي والثقافي. فهتاك شيء ما مغلوط !!. فقد تواتر عندنا أن السوداني أحسن من
يتحدث الإنجليزية/ السوداني اشجع من مشى على رجلين / السوداني أكرم زول / السوداني
أحسن من يفهم في السياسة والثقافة العامة/ لغتنا العربية السودانية هي الأسلم من
بين العرب. والقائمة تطول لكن عندما نخرج الى الشعوب الأخرى نصطدم بواقع آخر. صحيح
أننا تميزنا ببعض الصفات والقيم الخاصة دون غيرنا في بعض المراحل والجوانب لكن
اليوم حدثت متغييرات كثيرة ربما عدلت في كثير من هذه القيم !! وآخرها أننا لم نعد
أكبر دولة في افريقيا.
لهذا فإن محمولنا الثقافي لابد أن يصحح وإن
تقدم الشعوب بدأ بثورات ثقافية أبقت على المفيد وازالت المضرمنها وخاصة فيما يتعلق
بقيم العمل والعلاقات الاجتماعية. ودونك الثورة الثقافية في الصين “الصين
الجديدة” نعم نريده أيضاً سودان جديد ولكن ليس بمنظور الانتصار لفئة دون
أخرى. أنظروا الى سنغافورة التي كانت عبارة عن عشش للفقراء فانتفضت وبدأت بالمعلم فاعطته
وضعاً مميزاً ثم أخذت تعلم الناس كيفية التعامل مع ابسط الأشياء مثلاً كيف تفرّش
اسنانك بالطريقة الصحيحة. واستقطبت العلماء والمبدعين وبنت لهم المدن الصناعية
ومراكز الابحاث. إن رجوعنا لارثنا الإسلامي الصحيح كان يمكن أن يحقق نقلة نوعية
لكن للأسف منهج التأصيل الذي اتبعنه الإنقاذ الذي أخذت فيه تكفّر ونقصي الاخر وتظلم
وتمارس كل أنواع الفساد باسم الدين جعل الناس يترددون في قبول الإسلام السياسي
،الذي أنبت لنا كرد فعل تطرف غالى في الانتصار للافريقانية ضد العروبة وتحفظ على
مسألة الدين. وفي كلا الحالتين، فإن الغلو في العروبة والإسلامية من جهة أو الافريقيانبة امن جهة أخرى قد يصيب تعايش التنوع
الثقافي والاجتماعي والاثني والمعتقد في مقتل فتزدهر العنصرية والقبلية ويضيع بذلك
وطن.
فهل نتعلم في شتات مهاجرنا حول العالم كيف
نتقبل التغيير والتحول الايجابي كما فعلت شعوب أخرى وعبرت.