عدد المشاهدات: 27
يشير جدل الاشهر الأربعة الذي استمر منذ تسرب خطاب حمدوك الأول إلى الأمم المتحدة ثم تعديله بعد شهر وحتى صدور قراري مجلس الأمن مطلع هذا الشهر إلى أوهام ثلاثية الأبعاد تتسيد المشهد السياسي. الوهم الأول يتمثل في الإصرار على أن القرارين يمثلان انتهاكا للسيادة الوطنية، والوهم الثاني أن الاستعانة بالبعثة الأممية أمر عادي تكفله عضوية السودان في المنظمة الدولية والوهم الثالث أن الأمم المتحدة ستقوم بتأمين عملية الانتقال في السودان ودعم التوجه المدني للحكم والتعويض عن ضعف القوى السياسية.
وهذه الأوهام تنطلق من ظاهرة “التمريخ والتهليل” التي أصبحت من متلازمات السياسة السودانية من ناحية ومن التفكير الرغبوي من الناحية الأخرى. والاشارة إلى فريقي “المريخ والهلال” وتشجيعهما الذي لا ينطلق من تقييم منطقي أو حسابات عقلانية. وبنفس القدر فالتعامل مع القضايا والأشخاص يصدر في الغالب من مواقف مسبقة ورغبوية ليس لها صلة بالوقائع على الأرض. ولهذا تسير الأمور بطريقة دائرية ويبذل الجهد في اعادة اختراع العجلة مرة إثر أخرى ومن ثم تحقيق القليل فيما يتعلق بمراكمة التجارب وأحداث نقلة نوعية يمكن أن تخترق مسلسلات العجز والفشل المتطاولة.
وننطلق من البيان المقتضب للسيد حسن شيخ ادريس نائب رئيس اللجنة الوطنية العليا للتعامل مع الأمم المتحدة وأشار فيه إلى تحفظات مجلس الأمن والدفاع على قراري مجلس الأمن. ومع أن البيان لم يفصل في تلك التحفظات ولم يقم الإعلام بدوره في توفير الإضاءة اللازمة فإن أي قراءة سريعة للقرارين يمكن أن تلتقط الفقرات محل التحفظات وتتلخص في التمديد شهرين لبعثة اليوناميد، وعدم النص صراحة على ذكر الفصل السادس في القرار وكذلك التنسيق مع عمل البعثات الأخرى في السودان والإقليم وعدم النص على مشاورة السودان في تعيين رئيس البعثة ونائبه وأهم من ذلك كله عدم مشاورة السودان في التمديد للبعثة أو انهاء مهمتها رغم أن طلب إستقدام البعثة جاء أساسا من السودان.
النقطة الرئيسية التي يمكن الانطلاق منها تبدأ من الفقرة التمهيدية الأولى للقرار إذ تقول: ” إن مجلس الأمن إذ يعيد تأكيد جميع قراراته وبياناته الرئاسية السابقة المتعلقة بالحالة في السودان”، وهذه تتضمن بالطبع قرارات صادرة تحت الفصل السابع، كما أن الاشارة إلى التنسيق بين البعثات الأممية الأخرى في دارفور وأبيي وليبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى ومع المبعوث الخاص للأمين العام في القرن الافريقي وكلها تحت الفصل السابع والتأكيد في القرار على كفالة التعاون الفعال بين هذه البعثات تعزز من إمكانية الانضواء تحت ثقل هذا الفصل، على أن الأهم من ذلك تعامل السودان في هذا الموضوع أعطى اشارتين سلبيتين وتتمثل الأولى في إرسال الرسالة الأولى في يناير من قبل رئيس الوزراء ثم تعديلها في رسالة ثانية بعد شهر، الأمر الذي يشير إلى عدم توافق في البداية بين مكونات الحكومة الانتقالية والقوى السياسية على الطلب، ثم جاءت الاشارة السلبية الثانية بتكوين لجنة وطنية عليا للتعامل مع الامم المتحدة، وهي لجنة فرعية من مجلس الأمن والدفاع برئاسة الفريق إبراهيم جابر رغم أن مهام البعثة التي لا تتضمن جانبا عسكريا يتعلق باستحقاقات الفترة الانتقالية، الأمر الذي يشير إلى إحتمال التحسب إلى متاعب متوقعة.
للأمم المتحدة وجود قديم ومتسع في السودان وهو ما يعبر عنه وجود 20 مندوبا لمختلف الوكالات والصناديق والمؤسسات التابعة للمنظمة الدولية 18 منهم مقيمون في السودان بصورة دائمة. قدوم البعثة برئيسها ممثل الأمين العام ونائبه الذي سيكون الممثل المقيم ويشرف على مختلف الأنشطة سيسهم في توفير دعم أفضل وستتاح له موارد مالية وبشرية أحسن من الميزانيات العادية للمكاتب، كما سيتاح له التواصل مع قمة السلطة في السودان ومع الأمين العام للأمم المتحدة، الأمر الذي يمكن أن يساعد في تحقيق بعض الانجازات وتخفيف القيود البيروقراطية خاصة لجهة بعض القضايا الأساسية مثل إجراء إحصاء سكاني والمساعدة في العملية الانتخابية. فالإحصاء السكاني مثلا يظل من القضايا الحساسة التي تمثل مدخلا مهما للعديد من القضايا إذ لم يحظ السودان بإحصاء له صدقية معتمدة منذ إحصاء 1955 ورغم أن إحصاء 2008 شارك في تمويله صندوق المانحين بنحو 34 مليون دولار فقط من جملة تكلفة 103 مليونا ولم يحقق النتائج المرجوة بسبب التشاكس بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وقتها.
لكن تبقى القضية الأساسية البعد السياسي وقدرة البعثة على التحرك الفعال لاستكمال مهام المرحلة الانتقالية وعلى رأسها تحقيق السلام وكتابة الدستور، وهي قضايا تقع في صلب مسؤوليات القوى السياسية، التي يشير سجلها إلى فشلها في الوفاء بتلك المهمة رغم أن كل الانتخابات التي جرت في السودان في وضع تعددي حزبي كانت بهدف اقامة جمعيات تأسيسية تكون مهمتها كتابة الدستور، ولم ينجح معظهما حتى في وضع مسودة ليبدأ الحوار الجدي حولها.
فمع أن الوضع الحالي جاء إثر ثورة شعبية نتجت عنه مؤسسات الفترة الانتقالية إلا أن المشهد السياسي يتميز بحالة من الضعف والتشرذم لا تخطئها العين، ولعل في قرار حزب الأمة تجميد أنشطته في الحرية والتغيير ودعوة حزب المؤتمر السوداني إلى إعادة هيكلة للحكومة وحاضنتها السياسية الحرية والتغيير والانقسام في الجبهة الثورية، وذلك الذي طال تجمع المهنيين الذي مثل قاطرة الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام الانقاذ من أبرز المؤشرات على حالة الضعف هذه التي وصلت إلى مرحلة عجزها عن الضغط على رئيس الوزراء لتغيير بعض وزراءه، بل وبسبب هذا الضعف يصبح من غير الوارد تغيير رئيس الوزراء حتى ولو توصل الجميع إلى قناعة بفشله في القيام بمهامه وذلك لصعوبة الاتفاق على خلف له.
فوحدة الرؤية والإرادة السياسية لما يريد السودان تحقيقه وكيفية أنجاز ذلك، وتحديد ما تقوم به القوى السياسية داخل البلاد وتحديد الدور الذي يمكن أن تلعبه الأمم المتحدة يعتبر شرطا أساسيا للتعامل مع المنظمة الدولية والتقدم إلى الامام وإلا ينفتح الباب أمام تعثر لمهمة البعثة ووضعها على طريق الفشل أو الاخطر من ذلك أتاحة الفرصة أمام تدخلات أجنبية وربما حتى حلول مفروضة من واقع أستخدام القوة العارية وتحت ظلال بعض النصوص التي تحفظ عليها السودان في القرارين.
بل أن القرار في احدى فقراته أشار بوضوح: ” على أهمية تولي القوى الوطنية زمام الأمور، وشمول الجميع، والدور الذي يمكن أن يؤديه المجتمع المدني في النهوض بالعمليات والأهداف الوطنية لبناء السلام بغية ضمان مراعاة أحتياجات جميع أصحاب المصلحة.”
وفي هذا الإطار يمكن الإستشهاد بتجربة الأمم المتحدة في ليبيا القريبة حيث أنشأت بعثة أممية في 2012 لمساعدة ليبيا على عبور مرحلة الانتقال. والاشارة إلى الشهادة التي سجلها طارق متري الذي عين ممثلا للأمين العام وقائدا للبعثة لفترة عامين ونشرها في كتاب تحت عنوان “مسالك وعرة: سنتان في ليبيا ومن أجلها”.
يقول متري أن البعثة دُعيت للعب دور في بناء مؤسسات الدولة الليبية، الأمر الذي يتطلب قدرات تفوق بكثير ما توفر لبعثة الأمم المتحدة ويرى أنه إذا حدث تعزيز للقدرات فإن ذلك لا يضمن في حد ذاته نجاح العملية.
ويضيف: “لقد علمتنا الخبرة أن البعثة تصطدم بعقبات عصية على التذليل مالم تتوفر إرادة سياسية ليبية تضع أولويات وطنية محددة بوضوح. و لا تتوطن أعمال الأمم المتحدة في الأرض الليبية بمجرد انسجامها مع الخطط الوطنية، بل يستدعي ذلك استدامة في قبول الليبيين الفعلي للمشورة الاممية والمساعدات التقنية. وبالاضافة إلى القرار السياسي الوطني والاستيعاب المستدام للدعم الخارجي، لابد من تنسيق فاعل للمساعدات الدولية. صحيح أن البعثة كُلفت بمهمة القيادة في هذا المجال، إلا أن نجاحها جاء محدودا. ويقتضي الاضطلاع بدور تنسيقي حقيقي التزاما ليبيا واستعدادا فعليا من قبل أصدقاء ليبيا للعمل بشكل منسق.
ويمضي متري في شهادته إلى القول: ” وفي ليبيا، كما في سواها من بلدان المنطقة حبلت التغييرات الجذرية بالوعود وفتحت فرصا غير مسبوقة. وأظهرت التجربة الليبية أن عملية التحول محفوفة بالمخاطر بفعل تناقض المصالح المفترضة والمخاوف المتبادلة، وهي إرث أربعة عقود ونيف من الاستبداد. كما تسبب بها أيضا إيقاظ العداوات القديمة وإعادة اختراعها واستثمارها في الصراع على السلطة. واشتملت المخاطر على تأثر ليبيا بالصراعات الإقليمية وإمكانية جعلها ساحة لمنافسات ومنازعات بالواسطة. ونشاهد اليوم تهديدا متعاظما بانحراف حركة التغيير التي أطلقتها الثورة عن المسار الذي تطلع إليه الليبيون، ولن يتحقق الرجوع عن الانزلاق إلى المزيد من الاضطراب والضياع من دون اجماع القوى كافة، بالقول والفعل، على التمسك بالعملية الديمقراطية واحترام قواعدها، ومحاذرة اختزالها في صندوق الاقتراع وتشكل الأكثريات العددية والاقليات. ذلك أن التقدم في طريق الديمقراطية يشترط ارتضاء التنوع وعدم الاستحواذ والاستبعاد والفصل بين السلطات واستبطان قيم المشاركة وقبول الاختلاف.”
يذكر أن البعثة الأممية إلى ليبيا أقيمت تحت الفصل السابع الذي يجيز استخدام القوة لانفاذه وذلك بموجب القرار رقم 2040 الصادر في 12 مارس 2012 لمساعدتها في عبور الفترة الانتقالية والتحول الديمقراطي!
وما يجري في ليبيا اليوم يكاد يكون صورة طبق الأصل مما حذر منه وتوقعه متري.
وقديما قيل ما حك جلدك مثل ظفرك.
(غدا: أحزمة حمدوك الخمسة)
السر سيد أحمد
رابط الخبرأضغط هنا لنسخ رابط الخبر