اخبار السودان اليوم

الصَّادق المهدي. تجلِّيات زعيم طائفي (4)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

shurkiano@yahoo.co.uk

تنويه

نودُّ أن نلفت نظر انتباه القراء بأنَّ هذه السلسلة من المقالات قد تفوق ثماني حلقات، حيث حاولنا تجزئتها حتى يتسنَّى للقراء قراءتها ومتابعتها دون ملل أو كلل.

المهدي والترابي. إنَّ الذي بينهما وداً

لا سبيل إلى الشك في أنَّ التوافق بين حزب الأمة بزعامة السيِّد الصَّادق المهدي والحركة الإسلاميَّة بقيادة الدكتور حسن عبد الله الترابي كان قد نشأ باكراً. وحسب إقرار الصَّادق نفسه في السيرة الذاتيَّة السالف الذكر فقد بدأت علاقته “بنشاط الإسلاميين في السُّودان في جامعة الخرطوم التي دخلها في بداية الخمسينيَّات لفترة محدودة قبل سفره إلى أوكسفورد بإنكلترا؛ ويعترف بأنَّه لم يتعرَّض لاستقطابهم على رغم عدم وجود تنظيم لحزب الأمة في الجامعة في تلك الفترة، وبرغم من وجود الأرضيَّة المشتركة الإسلاميَّة بينهم، لكنه كان يرى ضرورة التعامل معهم، وقد هيَّأ لقيادتهم اجتماعاً مع الإمام عبد الرحمن المهدي للإعداد لعمل إسلامي مشترك (…).”(20)

على أيَّة حال، فقد استمرَّ الصادق المهدي في حزب الأمة وكانت كل محاولاته، ومن ورائه الدكتور حسن الترابي، أن يحوِّل كل مجهودات حزب الأمة وجماهيره إلى الإخوان المسلمين. ففي الانتخابات العامة التي جرت في الستينيَّات من القرن الماضي كان الشيخ عثمان إسحق، وهو الذي كان تاجراً، مرشحاً لحزب الأمة في دائرة كتم بدارفور. وإذا الصَّادق يأخذ أموال الحزب وينطلق إلى الفاشر بقصد صرفها على مرشحي الحزب لأغراض الدعاية الانتخابيَّة؛ وإذا هو يقصد مرشَّح حزب الأمة في دائرة كتم الشيخ عثمان إسحق؛ وإذا الشيخ المجواد عثمان إسحق يذبح الأبقار، وينحر الإبل، ويطعم الضيوف، ويكرم مثواهم؛ وإذا الضيوف يتعشون؛ ثمَّ إذا الصَّادق المهدي يتسلَّل خلسة ليلاً بعد أن نام الضيوف وأخذوا يغطون في الغطيط، وتوجَّه سرَّاً إلى مرشَّح الإخوان المسلمين في نفس الدائرة – أي كتم – وهو سليمان محمود أبكر. وهل أتاكم حديث سليمان أبكر؟ ومن ذا الذي يكون هو؟

كان سليمان أبكر مرشَّح حزب الأمة في انتخابات سابقة، وكان قد أقسم على المصحف الشريف بأنَّه ليس بأخٍ مسلم، ولكن ما أن جاء إلى الجمعيَّة التأسيسيَّة حتى انقلب على عقبيه وحنث في القسم، وانضمَّ إلى الإخوان المسلمين. وعوداً إلى الصَّادق المهدي، فقد ذهب الصَّادق إلى منزل سليمان أبكر مرشَّح الإخوان المسلمين – كما ذكرنا سلفاً – مدَّعياً بأنَّه مدعو لتناول طعام العشاء في منزله، ولم يدر الصَّادق أنَّ مرشَّح حزب الأمة الشيح عثمان إسحق كان قد دسَّ ابن عمَّه كغوَّاصة (عميل) وسط مرشَّح الإخوان المسلمين، وقد أظهر ابن عمَّه هذا خبرات استخباراتيَّة مستعظمة، حيث التحى وأظهر حماساً إخوانيَّاً منقطع النَّظير لمرشَّح الإخوان المسلمين، حتى وثقوا فيه، وإطمأنَّت إليه قلوبهم، ومن ثمَّ تمَّ تصعيده إلى اللجنة العليا. وإذا ابن عم مرشَّح حزب الأمة هذا يحضر عشاء الصَّادق مع مرشَّح الإخوان المسلمين؛ وإذا الصَّادق في هذا الاجتماع العشائي الذي حسبه سرَّاً من أسرار الكون يخرج مالاً، ويقول كان هذا المال من المفترض أن يذهب إلى الشيخ عثمان إسحق مرشَّح حزب الأمة، وليس لغيره، وسوف أعطيك إيَّاه. ثمَّ استطرد الصَّادق قائلاً: “هناك عربة كانت مخصَّصة للشيخ عثمان كذلك، وقد وصلت للتو إلى الفاشر ومعها السائق، ولا استطيع أن أمنحك العربة إيَّاها، لكني كل ما استطيع أن أفعله هو أنَّني سأصرفها إلى جهة أخرى في دارفور، وأترك الشيخ عثمان بلا عربة.

كان الصَّادق مقبلاً على تلك الفعلة، ولم يدر بخلده بأنَّ “السِّر بين أكثر من إثنين ليس بسرٍّ” كما يقول الإنكليز؛ أو “السر بين إثنين سرٌّ يشارك فيه الرَّب؛ أما السِّر بين ثلاثة فسرٌّ يشارك فيه الجميع” كما عند الفرنسيين؛ ويقابله في العربيَّة قولهم: “كلُّ سرٍّ جاوز الإثنين شاع.” ويقول أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ في الأمر إنَّ “السِّر إذا تجاوز صدر صاحبه، وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة، فليس حينئذٍ بسر.” فالعلَّة في مجاذبة الطباع، لأنَّ من طبع الإنسان محبَّة الإخبار والاستخبار، وبهذه الجبلَّة التي جُبِل عليها النَّاس نُقِلت الأخبار عن الماضين إلى الباقين، وعن الغائب إلى الشاهد، وأحبَّ النَّاس أن يُنقل عنهم. وقال بعض الشعراء:

فلا تُفشِ سرَّك إلَّا إليك
فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نَصيحا

مهما يكن من شيء، فما أن تنفَّس الصبح حتى جاء ابن عم الشيخ عثمان مهرولاً إليه بنبأ عظيم، وكشف له أنَّ المال المخصَّص له من الحزب للحملة الانتخابيَّة كان قدره 3.500 جنيهاً سودانيَّاً، ولكن سلَّمه الصَّادق إلى سليمان أبكر، وإنَّ العربة عربة الحزب التي كانت مخصَّصة لك سوف لا تصلك هي الأخرى، وسيصرفها الصَّادق المهدي إلى جهة أخرى في دارفور. ومن هنا غضب الشيخ عثمان في أشدَّ ما يكون الغضب، وغضب الأنصار في دارفور معه أيما غضب، وأكَّدوا له بأنَّهم ليسوا بحاجة إلى المال أو العربة، بل كثَّفوا حملتهم الانتخابيَّة بوسائلهم المتاحة، وخرجوا خروج رجل واحد وامرأة واحدة، وصوَّتوا لصالح مرشَّحهم الشيخ عثمان إسحق حتى فاز بأغلبيَّة ساحقة، وسقط مرشخ الإخوان المسلمين سليمان أبكر سقوطاً ذريعاً.

ومن بعد جاء الشيخ عثمان شاكياً الصَّادق في الخرطوم عند الإمام الهادي عبد الرحمن المهدي عمَّ الصَّادق، وتمَّ تكوين لجنة للتحقيق من اثنين هما سعيد عبد الله وهو الذي كان مستشاراً في ديوان النائب العام، وتاجر من حزب الأمة كان يقيم في العزوزاب بالخرطوم. ومن ثمَّ جاء الشيخ عثمان بشاهدين: ابن عمه ذاك وشاهد آخر كان قد حضر الاجتماع بين الصَّادق وبين مرشَّح الإخوان المسلمين سليمان أبكر. وبعد المداولات أثبتت اللجنة أنَّ الصَّادق متورِّط في هذه الملهاة. فقد أخذ مال حزب الأمة وصرفه لمرشَّح الإخوان المسلمين، وأخذ عربة الحزب وصرفها لجهة أخرى مجهولة. وأخيراً طلب الإمام الهادي من الشيخ عثمان إسحق أن يترك هذه القضية، لأنَّه فاز بأغلبيَّة ساحقة، ولا داعي لإثارة هذا الأمر لأنَّ مشكلاتنا مع الصَّادق قد كثرت، وقد أمسى يسدِّد لنا طعنات من الخلف بين الحين والآخر.

علاوة على ذلك، فقد أقدم الصَّادق على اختلاق شيء من المشكلات كثير للحزب ولآل المهدي خاصة وللسُّودان عامة، مما اشتاط عمه الإمام الهادي غضباً وتضجُّراً، وأقسم أنَّه لسوف يُرى ابن أخيه (أي الصَّادق) النجوم نهاراً في كبد السماء. وكان أكبر تحدِّي أقدم عليه الصَّادق القادم من جامعة أوكسفورد هو العمل على انشطار الحزب، وبات فصيل تحت قيادته وآخر تحت زعامة عمه الإمام الهادي إلى أن تمَّ التحام فصيلي الحزب – لاحقاً – تحت شعار “البلد بلدنا ونحن أسيادها!”

ففي مقال طويل للصَّادق المهدي، والذي نُشِر في حلقتين في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنيَّة بعنوان “الوفاق والفراق بين الأمة والجبهة في السُّودان (1958-1995م)، حاول الصَّادق أن يعدِّد أوجه الوفاق والفراق بين حزبه من ناحية، وحزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بمسمياتها المختلفة من ناحية أخرى.(21) ولعلَّ عنوان المقال إيَّاه يوضِّح بلا ريب – وإنَّ الإناء بما فيه ينضح – أنَّ ذلك التعاون استمرَّ بينهما حتى بعد انقلاب الأخير على حكومته العام 1989م ولمدة ست سنوات حتى العام 1995م، كما ورد في عنوان المقال وبالخط العريض، وذلك في الوقت الذي كان فيه النِّظام في أشد عنفه وقسوته بالمعارضين لسياساته، ومساوئه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.

على أيَّة حال، فقد أحصى الصَّادق في المقال إيَّاه ثمان محطَّات التعاون بين حزب الأمة وكيان الأنصار من جهة، والجبهة القوميَّة الإسلاميَّة (الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة) من جهة أخرى؛ إذ نذكر منها: تكوين مؤتمر القوى الجديدة العام 1967م، والتعاون أثناء الديمقراطيَّة الثانية (1964-1969م) في كتابة مشروع دستور البلاد، والذي نصَّ على إسلاميَّة التشريع، وكان هذا المشروع الخلافي وسط القوى السِّياسيَّة في الساحة السُّودانيَّة قاب قوسين أو أدنى من الموافقة والإجازة من قبل الجمعيَّة التأسيسيَّة لولا أن قضى عليه انقلاب العقيد يومئذٍ جعفر محمد نميري في 25 أيار (مايو) 1969م بضربة لازب. بيد أنَّ أخطر وفاق تمَّ بين حزب الأمة وبين الحركة الإسلاميَّة هو التعاون في “تكوين جماعة الفكر والثقافة الإسلاميَّة العام 1980م لتكون المنبر القومي الإسلامي في البلاد”، مع العلم أنَّ الحركة الإسلاميَّة بقيادة حسن الترابي كان يومذاك شريكاً في نظام أيار (مايو) بعد المصالحة الوطنيَّة العام 1977م. ثمَّ كان الصَّادق ذاته قد ارتضي أن يدخل الاتحاد الاشتراكي السُّوداني – تنظيم الحزب الحاكم – ولكنه لفظه و”قرَّر أن يستقيل من عضويَّة المكتب السِّياسي للحزب الحاكم، برغم إعلانه غداة انضمامه إلى النِّظام (المايوي) أنَّه يقرُّ بأنَّ الدِّيمقراطيَّة التعدُّديَّة لا تصلح للبلاد، وأنَّه لا بدَّ من حزب واحد جامع.”(22) ولعلَّ المؤتمر الوطني قد أصبح ذاك الحزب بالنسبة إليه. مهما يكن من أمر، فبعد أفول نظام نميري العام 1985م بات الصَّادق ينعت غيره بالسدانة، ويرفض ترشيح الدكتور أحمد السِّيد حمد لمنصب عضو مجلس السِّيادة الذي بات شاغراً واصفاً إيَّاه بسدنة مايو، وكأنَّه هو – أي الصَّادق ذاته – لم يكن بسادن.

أيَّاً كان من أمر الدكتور أحمد السيِّد حمد وغيره، فقد ظهرت إسلامويَّة الصَّادق الفاقعة وعروبته الصارخة في الورقة التي قدَّمها في “مؤتمر جماعة الفكر والثقافة الإسلاميَّة في تشرين الأول (أكتوبر) 1982م”، وفيها ذكر الصَّادق – فيما ذكر – خمس وسائل لتعريب وأسلمة جنوب السُّودان.(23) وتمثَّلت هذه الوسائل في: إرسال الدعاة الإسلاميين إلى الجنوب، ونمو مصالح اقتصاديَّة بالتمويل من الشمال أو العرب عبر الشمال، واستقرار أعداد كبيرة من الجنوبيين في الشمال، واستغلال الاختلاف القاعدي بين القبائل في الزراعة والمرعى والعشيرة، وخلق علاقات وديَّة مع الجنوبيين بحلول وعي جديد في أنفسهم. أما إذا محَّصنا تلك النقاط، فليس فيها جديد لأنَّها هي نفس السِّياسة التي اتَّبعتها حكومات ما قبل الصَّادق وبعده تجاه الجنوب، غير أنَّ الجديد هو أنَّ الصَّادق مفعم بأن تُنسَب إليه كل الأمور خيرها وشرِّها. ففي اجتماع تنويري حضره بعض السُّودانيين بدار حزب الوفد المصري في القاهرة العام 2016م، حيث جمع الاجتماع كافة أعضاء الحزب، وكان الصَّادق المهدي الضيف المتحدث الأساس، حيث جاء ردَّه على سؤال عن سير مشروع التعريب في السُّودان بأنَّه قبل مجيء “الإنقاذ” كان التعريب يسير ببطء تحت ستار الدِّين، ولكن “الإنقاذ” سارعت الخطى، وانكشف أمر التعريب. وأضاف الصَّادق بأنَّ الجنوب ذات الأغلبيَّة المسيحيَّة قد انفصل، وإنَّ دارفور عُرِّبت تقريباً، وهناك ولايتان كانت تقاتلان مع متمرِّدي جنوب السُّودان هما النيل الأزرق وجنوب كردفان؛ الأولى في حال انفصالها سوف تهدِّد الأمن المصري لارتباطها بمياه النيل؛ أما جنوب كردفان التي يقطنها النُّوبة فهي أكبر مهدِّد لمشروع التعريب في السُّودان.

إنَّ الإصرار على الأسلمة والتعريب بشيء من الإصرار متزمِّت ليوقظ في نفوس سكان السُّودان الأصلاء كوامن قديمة وجديدة؛ فالقديم الكامن في هذا الأمر أنَّ ما يثيره أصحاب الأسلمة والتعريب يعيد إلى الأذهان التأريخ الأسود لدخول العرب في السُّودان، وانتشار اللُّغة العربيَّة. وبرغم مما قيل إنَّ اللُّغة العربيَّة انتشرت عن طريق المصاهرة والتجارة، إلا أنَّ تجارة الرِّق كانت تمثِّل أسوأ أنماط تينك التجارة والمقايضة. أما الجديد الذي تكرِّسه تينك القضيَّتين (الأسلمة والتعريب) فهو التهميش الإقليمي في التنمية الاقتصاديَّة، والخدمات الاجتماعيَّة، والقسمة الضيزى في السلطة السيِّاسيَّة والثروة القوميَّة والوظائف العليا وغيرها. هذه الزماتة في الدِّيانة الإسلاميَّة والأثنيَّة العروبيَّة – علاوة على قضايا أخرى – هي التي أدَّت إلى انفصال جنوب القطر. فإذا لم يع أو يعتبر أصحاب الحركة الإسلاميَّة أو الصَّادق المهدي، صاحب ومبشِّر الصحوة الإسلاميَّة، الدَّرس فقد تنفصل أجزاء أخرى عن السُّودان. إذاً، إنَّ الأمر يستوجب أن يصبُّ في الاهتمام بقضايا النَّاس الحياتيَّة ومعاشهم، والابتعاد عن دغدغة مشاعرهم الرُّوحيَّة. فعلى القائمين بزماتة ذينك الأمرين – أي التعريب والأسلمة – أن يتركوهما يأخذان مجراهما عن طريق نظريَّة التلاقح الثقافي والانسياب الاجتماعي، وذلك دون إملاء على الأغيار، أو مراغمة لهم، أو مسايسة لهذين الأمرين في حيواتهم العامة والخاصة.

مهما يكن من شيء، فإنَّ الصَّادق لم يرد في ذلكم الوفاق – الذي أشرنا إليه أعلاه – التعاون الوثيق الذي تمَّ بينه من ناحية، وبين الحركة الإسلاميَّة والأحزاب اليمينيَّة الأخرى من ناحية ثانية، وأفضى ذلكم التعاون إلى حل الحزب الشُّيوعي السُّوداني وطرد نوابة من البرلمان، وممانعته من حق ممارسة العمل الحزبي-السِّياسي، وذلك في مسلك أشبه ب”مكارثيَّة سودانيَّة”، أي على نمط السيناتور الأميريكي جوزيف مكارثي (1947-1957م) الذي كان مهووساً بالشُّيوعيين في الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة. ففي مستهل العام 1950م بات مكارثي الوجه الشَّعبي في الولايات المتَّحدة إبَّان التوتُّرات الناتجة من الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتِّحاد السوفيتي من ناحية، والمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة من ناحية أخرى، وأمسى السيناتور مكارثي وقوداً لمخاوف الذين اعتقدوا بوجود أنشطة تخريبيَّة شيوعيَّة على نطاق واسع في الولايات المتَّحدة. هذا، فقد زعم مكارثي أنَّ كثراً من الشُّيوعيين والجواسيس السوفيت ومتعاطفيهم قد تسلَّلوا إلى الحكومة الفيديراليَّة (وزارة الخارجيَّة، وإدارة الرئيس هاري ترومان، وإذاعة صوت أميريكا، والجيش الأميريكي)، والجامعات والتصنيع السينمائي، ومؤسَّسات أخرى. ثمَّ سرعان ما بات مفهوم المكارثيَّة (McCarthysim)، الذي اشتهر العام 1950م كمرجعيَّة لممارسات مكارثي التخوينيَّة، يرمز إلى كل النَّشاطات المناوئة للشُّيوعيين، حتى بات ما أسمَّوه “الرُّعب الأحمر” (Red Scare) سمة رائسة وسط المؤرِّخين في ذلك الحين من الزمان. ففي 2 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1954م صوَّت مجلس الشيوخ الأميريكي لصالح فرض قيود على السيناتور مكارثي ب67 صوتاً مقابل 22، مما جعله واحداً من الشيوخ القليلين الذي تعرَّض للمحاسبة بهذه الطريقة.

مهما يكن من شأن السيناتور مكارثي، ففي المقال إيَّاه لم يخض الصَّادق في مسألة المكارثيَّة التي كان هو أحد أضلاعها. أفلم أقل لكم إنَّ الصَّادق لانتقائي في أقواله وكتاباته، حيث يتحاشى الصِّدق، ويتوارى عن الحق لواذاً بغير حق! وقد استغلَّ الإخوان المسلمون في تحالفهم مع الصَّادق والاتِّحاديين الرُّعب الذي دخل في قلوب الاتِّحاديين من تنامي الحزب الشُّيوعي السُّوداني، والذي كان قد فاز بكل دوائر الخريجين، وكاد أن يلحق الهزيمة بالحزب الاتِّحادي في دائرة أم درمان الغربيَّة الجغرافيَّة. ولعلَّ التحالف إيَّاه كان هو الأخطر من نوعه؛ إذ تكمن خطورته في أنَّه كان في مواجهة القضاء. على أيٍّ، فبعد “قرابة العام أصدر مولانا صلاح حسن، قاضي المحكمة العليا، في 22 كانون الأول (ديسمبر) 1966م حكماً أعلن فيه أنَّ الحريَّات المنصوص عليها في المادة الخامسة من دستور السُّودان المؤقَّت للعام 1964م لا يجوز الحد منها بتشريع أو تعديل دستوري، وحكم بعدم دستوريَّة التعديلات التي أُجريت في العام الماضي، وأصبح ذلك الحكم سابقة قانونيَّة يرجع لها فقهاء القانون وأساطين التشريع الدستوري. وبناءً على ذلك الحكم أصدرت محكمة مديريَّة الخرطوم حكماً ببطلان حل الحزب الشُّيوعي وطرد نوابه من البرلمان.”(24) فماذا كان موقف تحالف المهدي-الترابي من حكم القضاء؟

قال الصَّادق المهدي إنَّ حكم المحكمة العليا حكم تقريري، وكأنَّ المحكمة العليا حين أصدرت حكمها كانت في منتدى ثقافي أو جمعيَّة أدبيَّة! وهل كان ذلك التصريح نابعاً من موقف انفعالي ظل عالقاً في مخيَّلة الصَّادق وفي نفسه لأكثر من عام قبل أن يفوح منه ويبوح به في نهاية الأمر؟ ولماذا امتثلت تلكم القوى السِّياسيَّة يومئذٍ منذ البداية باللجوء إلى القضاء إذا كان حكمه سيصبح تقريريَّاً؟ أم أنَّ الأمر لم يكن سوى ألعوبة سياسيَّة نقبل بحكمها إذا وافق هوانا، ونرفضه إذا لم يصادف منا هوى؟ إنَّ تصريحات الصَّادق المهدي كانت قد نسفت كل المؤسَّسة القضائيَّة، وهي إحدى ركائز النِّظام الدِّيمقراطي الليبرالي، وهي السُّلطة الثالثة في مثلت السُّلطة التنفيذيَّة والتشريعيَّة.

على أيِّة حال، فبعد مضي قرابة عقدين من الزمان قال الصَّادق مستطردأ في تعليق آخر عن ذلك الحكم في محاضرة ألقاها في ألمانيا عن حقوق الإنسان المستدامة إنَّ قاضي المحكمة العليا صلاح حسن كان عضواً في الحزب الشُّيوعي السُّوداني، ورئيس القضاء آنذاك كان عضواً مشاركاً في الحزب الشُّيوعي. إذ كان تعامل القضاء مع تلكم القضيَّة قانونيَّاً حينما كان القضاء في ذلك الرَّدح من الزمان في قمة شموخه المهني، وتعامل الصَّادق مع القضيَّة إيَّاها تعاملاً سياسيَّاً، وبات حكم القضاء إرثاً قانونيَّاً. بيد أنَّ الحزب الشُّيوعي نفسه لم يحمل في قائمة أعضائه أيَّاً من الرجلين القاضيين، بل كان ذلك القول تخبطاً من تخبطات الصَّادق العشواء، وافتراءً من افتراءاته الخرقاء على الحق.

أما الدكتور الترابي، وهو ذلك القانوني الضليع، فقد أصدر كتاباً بعنوان “أضواء على المشكلة الدَّستوريَّة: بحث قانوني مبسَّط حول مشروعيَّة حل الحزب الشُّيوعي”، وذلك بعد شهر من قرار المحكمة العليا، أي في كانون الثاني (يناير) 1967م، فيه نصب نفسه محكمة أعلى فوق المحكمة العليا، وأغرق نفسه في ثمة مغالطات هنا وهناك. وقد أدرك رئيس حركة الإخوان الجمهوريين الأستاذ محمود محمد طه ما في كتاب الترابي إيَّاه من اضطراب، مما اضطرَّ أن يعبِّر عنه ويفنِّده ويرد عليه في كتاب بعنوان “زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: الثقافة الغربيَّة – الإسلام، أضواء على المشكلة الدَّستوريَّة”. إذ قال الأستاذ محمود إنَّ الكتاب كتاب الترابي “من حيث هو فلا قيمة له ولا خطر، لأنَّه متهافت، ولأنَّه سطحي، ولأنَّه ينضح بالغرض ويتَّسم بقلَّة الذكاء الفطري.”

مهما يكن من شيء، ففي ذلكم اليوم المشهود الذي لم ينساه محبُّو الدِّيمقراطيَّة كان القضاء السُّوداني قد أصدر حكمه العادل، ومع ذلك اختلط أمر النَّاس في هذه المسألة القانونيَّة-التشريعيَّة بشيء من الاختلاط شديد، وأخذت طابعاً سياسيَّاً حاداً، وانتقلت لتنال من المؤسَّسة القضائيَّة واستقلال القضاء، مما دفع برئيس القضاء حينها بابكر عوض الله ليقدِّم استقالة مدويَّة، ختمها قائلاً: “إنِّي عملت ما في وسعي لصيانة استقلال القضاء منذ أن كان لي شرف تضمين ذلك المبدأ في ميثاق تشرين الأول (أكتوبر) 1964م. ولا أريد لنفسي أن أبقى على رأس الجهاز القضائي لأشهد عمليَّة تصفيته، وتقطيع أوصاله، وكتابة فصله الأخير من فصول تأريخه.” ففي كتابه الموسوم بعنوان “معالم في تاريخ الحزب الشُّيوعي السُّوداني” تناول الدكتور المرحوم محمد سعيد القدَّال حال الأحزاب السِّياسيَّة والظروف الإقليميَّة والدوليَّة التي قفزت بالقوى الاشتراكيَّة واليساريَّة إلى السُّلطة في العالم العربي، وذلك في إطار حديثه عن حل الحزب الشُّيوعي السُّوداني والأزمة الدِّستوريَّة.(25) إذ ذكر الدكتور القدَّال – فيما ذكر – مواقف قادة الأحزاب السِّياسيَّة من الحل والدفوع القانونيَّة والتشريعيَّة في هذه القضيَّة التي كانت إحدى عوامل وأد الدِّيمقراطيَّة الثانية (1964-1969م).

على أيٍّ، فقد تمثَّل التعاون بين المهدي والترابي “في القضاء سياسيَّاً على التيار الشُّيوعي الذي كا ذا سطوة سياسيَّة وصوت شعبي عالٍ بين المثقَّفين والعمَّال والمزارعين حتى بداية السبعينيَّات، وهو قضاء ربما أقصى الحزب الشُّيوعي من الساحة السِّياسيَّة إلى درجة هبوط أصواته الانتخابيَّة من 65 ألفاً العام 1958م إلى 1695 صوتاً فحسب العام 1967م، وإلى ثلاثة مقاعد انتخابيَّة العام 1985م.”(26) ثمَّ إنَّ “هذا التعاون نفسه أدَّى إلى تمكين التيار الإسلامي من الصعود إلى المركز الثالث في نادي الأحزاب السُّودانيَّة الكبرى بقوَّة بلغت 51 مقعداً برلمانيَّاً العام 1985م بعد أن كان صفراً على الشمال في انتخابات العام 1958م.”(27) كما أنَّ هناك نمط آخر من “أدنى درجات هذا التعاون المبرمج، (الذي تمثَّل) في قص أجنحة التيار الاتِّحادي (الحزب الاتِّحادي الدِّيمقراطي) الاقتصاديَّة التي تحوَّلت إلى بنوك وشركات إسلاميَّة على الصعيد السِّياسي، وانتزاع أقوى مراكزه الانتخابيَّة في عقر داره (الخرطوم بحري) لمصلحة التيار الإسلامي،”(28) والذي فاز فيه مرشَّح الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة مهدي إبراهيم في انتخابات الجمعيَّة التأسيسيَّة العام 1985م.

Exit mobile version