اخبار السودان لحظة بلحظة

هشام الشواني يكتب: كيف يقود التحليل الثقافي للحرب لمزيد من الحرب ؟!

إن ما يسمى بمنهج التحليل الثقافي في السودان ماهو إلا خطابا، موقفا سياسيا، إسقاطات نفسية ، إنتقائية مشوهة وليس ما يعتقد او ما يشاع عن كونه نظرية معرفية او منهجا رصينا. وليس ذلك في حد ذاته عيبا ولكنها حقيقة يجب قولها لمن يعتقد غير ذلك ويعطي سلطة المعرفة لخطاب discourse آيدلوجي مستند على افتراضات كامنة ذات صلة وثيقة بالتمثيل representation الكولونيالي للعرب والمسلمين. هذا الخطاب له حجر زاوية يدعي البعض أنه حجر زاوية ابستمولوجي وأعني التمييز بين ما يسمى عندهم بالآيدلوجيا الإسلاموعروبية وبين ثقافة الإسلام والثقافة العربية هذا التمييز (اعتباطي/ تبريري/ سطحي) يسعى لتسويغ الخطاب عبر إكسابه هيبة معرفية. إن المسألة هنا بخصوص الآيدلوجيا الاسلاموعروبية تبتسر وتقتطع سياقات تاريخية واجتماعية لهذه الثقافة الإسلامية العربية وتقوم على منظور جوهراني خاطئ للثقافة. ثمة إرتباط كبير بين طبيعة الإسلام في السودان منذ بداية دخوله وبين سياقات ظروف القرن السابع عشر في دولة الفونج لغاية دخول محمد علي باشا السودان وإرتبطت هذه الظروف بنشؤ طبقة وسطى جديدة سودانية من أصول ذات ثقافة عربية أو مستعربة فيما مثله الهمج والقبائل العربية بطابع تدين صوفي محلي مختلط بالثقافة الإفريقية وتلك البنية الميثولوجية للثقافة وقتها ذات صلة بالبيئة والشروط الاجتماعية كلها ومثلت نسخة من الإسلام والثقافة العربية ولكنها لم تفارق تماما درب الإسلام الرسمي الممثل في رجل الشريعة والفقيه. على تلك الأسس نفسها وبذات الصلات الجيوسياسية للسودان مع مصر والعالم العربي جاءت الدولة الخديوية والتي تمثل احتلالا سياسيا ولكنه احتلال بالمعنى القروسطي للاحتلال وذلك معنى يشير لطموحات سياسية لحاكم او سلطان اما الإستعمار الكولونيالي بمعناه الحديث المرتبط بالهيمنة والقوة ونظام المعرفة فقد كانت الدولة التركية نفسها خاضعة له لاسيما وأن محمد علي باشا كان معجبا بالنموذج النابليوني وقتها وهذه الحقيقة يثبتها التاريخ اللاحق لمصر وتحولات الخديوية لأداة في يد الانكليز. في تلك الحقبة الخديوية تكرست نسخة الثقافة الإسلامية العربية بنسختها (الحضرية/العالمة) في ثقافة الفقيه ورجل الشرع وهذه حقيقة تاريخية تعبر عن ارتباط نسخة (الثقافة/الدين) بالشروط الاجتماعية كلها بمعنى ان التمييز بين ثقافة عربية اسلامية و آيدلوجيا إسلامية عربية هو تمييز اعتباطي واقع في فخ الجوهرانية.

بغير ذلك فإن الانتقائية تضرب بأذنابها جميع أركان خطاب التحليل الثقافي للحد الذي يمكنني أن اقول ان هذا الخطاب هو في جملته اسقاطات نفسية واقعة تحت تاثير التمثيل الاستشراقي للعرب والمسلمين والشرق عموما. ان هذا الخطاب يتقاصر عن ان نعده جزء من مجال الدراسات الثقافية او سوسيولوجيا المعرفة، لذا فإن وصفه بكلمة منهج التحليل الثقافي استهتار رهيب بمعنى كلمات مثل( منهج /تحليل/ثقافة)

هو خطاب اذن , والخطاب تعبير وتمثيل كما هو معلوم، وهنا وللاسف الشديد نجد اننا امام تمثيل استعماري مئة بالمئة. انظر لصورة العرب والمسلمين في صورة هذا الخطاب ستجد مع جملة التهافت المعرفي صورة عنصرية استعمارية لإسلام يعكس ثقافة الرق واضطهاد النساء والقتل والإرهاب والاستعلاء والجهل واللاتسامح في المقابل لن تعثر عن اي نقد لهذا التمثيل المتجني وجذوره الاستعمارية كذلك لن تجد اي نظرة تعكس طبيعة التمييز بين صراعات ثقافية تاريخية تخص سياقنا الجغرافي الغير اوروبي وبين صراع الإستعمار نفسه. اننا امام خطاب ينظر للزبير باشا رحمة كعدو وينظر لغردون باشا كحليف او يتعامى عن الشرط الاستعماري الأوروبي الذي وبإطلاع عميق سيكشف لك كيف ان الثقافة الإسلامية العربية في السودان هي نفسها ضحية لهذا الإستعمار ناهيك عن كونها ثقافة محلية اصيلة منذ قرون عديدة.

هناك قصور معرفي آخر للخطاب يتجاوز منظوره السكوني للثقافة و يتجاوز استناده للتمثيل الاستشراقي. وهو قصور التحليل التاريخي الاجتماعي للتاريخ السوداني وهنا فإن دراسة مثل دراسة (عصر البطولة في سنار – جاي سبولدنق ) تعكس منهجا رصينا وجادا وموضوعيا يربط الثقافة بالمسرح الاجتماعي ككل. المنهج بدلا عن ذلك يقرا التاريخ قراءة آيدلوجية ممتلئة بالكراهية ويعافر حاملوه من أجل خلق تاريخ نفسي للضحية وكأن ممالك كوش والنوبة مثلت آخر لحظة في التاريخ وما بعدها جريمة !! ان هذا المدخل هو مدخل ساذج طفولي لقراءة التاريخ.

ماهي النتيجة؟
العنف والحرب والعنصرية والكراهية والتبعية. نعم فهذا الخطاب السهل الساذج يملا نفوس الكثيرين وكونه آيدلوجيا مضللة فهو حاجب للمعرفة ومكرس للتبعية وفي ذات الوقت كما بينت سابقا هو خيانة لجميع الثقافات المحلية لأنه يحنطها ويضعها في المتحف عبر منظور فلكلوري. ليس صدفة ان هؤلاء المتشدقين بالتحليل الثقافي هم الأكثر تماهيا مع العولمة والثقافة الرأسمالية الموحدة.

الأمل يأتي عبر اليقظة والوعي للقوى الجديدة لجميع أبناء السودان، يأتي من أبناء جبال النوبة والغرب والشرق والشمال المخلصين للوحدة الوطنية السودانية والمخلصين لجميع الثقافات المحلية عبر منظور يضع الواقع التاريخي في مقدمة التحليل. هذا الأمل مرتبط بثورة ديسمبر و عبر هذه اليقظة التي نتجاوز عبرها مثقفي الحرب وتجار الحرب نبذر بذور السلام الشامل الحقيقي ونتجاوز كوننا كائنات مشوهة استعماريا لنصنع العالم الجديد

اترك رد