اخبار السودان اليوم

عبداللطيف البوني يكتب:عباس الزين الطيب (مكتبة ورحلت )

(1 )
بإيعاز من أستاذي الجليل الراحل البروفيسور / محمد سعيد القدال قررت ان يكون بحثي للتخرج من الجامعة (حركة مزارعي الجزيرة ) ويومها كانت المادة المكتوبة عن مشروع الجزيرة نادرة جدا كأنما هناك جهة تريد أن يبقى هذا المشروع بعيدا عن التناول الأكاديمي والمجتمعي وهذه قصة أخرى . فكان لابد من الذهاب لمكتبة السودان وهي جزء من مكتبة الجامعة العامة جمع فيه كل ما كتب عن السودان من رسائل ومدونات وكتب وصحف ولكنها كانت مخصصة لطلاب الدراسات العليا.
ولا يمكن لطلاب البكالريوس الاستفادة منها إلا بإجراءات معقدة تبدأ بإفادة من الكلية ثم يقدم الطلب لأمين المكتبة وبعد الموافقة تكتب المرجع الذي تريد ليأتيك في المكتبة العامة ولما كان بلدياتي وصديقي الراحل محمد الشيخ إدريس (طه الجاك) موظفا في المكتبة لجأت اليه فقال لي اعتبر الموضوع منتهي لأن المسؤول المسائي عن المكتبة صاحبنا عباس الزين وهو زول متعاون جدا وشغوف بالمعرفة.

(2 )
كان ترحيب عباس بي فوق كل تصور فذهب لمكتبة الشنقيطي وهي ايض
مخصصة لجلوس طلاب الدراسات العليا ولكن بها متسع واستأذن ملازم المكتبة كي أجلس هناك ولم يحوجني لأي كشاف لانه يعرف كل ما في المكتبة عن الجزيرة
فاقترح علي ان ابدأ بالزراعة في السودان فأحضر لي سفر توتهيل الضخم وبعده كتاب آرثر جتسيكل (الجزيرة قصة تنمية) وكانت توجد منه نسخة واحدة ثم رسالة دكتور عبد الوهاب عبد العزيز المبارك فكانت كتبا ومراجع ما كنت أحلم بها.
وكنت متخيلا ان هذه معاملة خاصة لي نسبة لوساطة محمد شيخ ادريس ولكنني اكتشفت ان كل المجموعة (المبلدة) في مكتبة الشنقيطي أتى بها عباس فهو لا يريد ان يخرق اللوائح بإدخال طلاب البكالريوس في مكتبة السودان وفي نفس الوقت يريد ان ييسر على الطلاب ويختصر الإجراءات المطولة وهذا يكلفه مشاوير وجهدا ورهقا وكان كل واحد منا يظن أن عباس يخدمه بصورة خاصة ولكننا أيقنا ان هذا ديدنه مع كل باحث.

(3 )
من أرض المحنة من الجزيرة ومن القسم الشمالي فيها . تحديدا من قرية (حلة عباس ) الوادعة التي تتوسط الحواشات المخضرة جاء عباس الزين الطيب وهي ذات القرية التي أعطت السودان ملك الأداء وسلطان الطرب و(قائد أسطول) الغناء الشعبي وسادن الحقيبة صاحب الصوت الذي هز كل السودان (من اليمن للشام ) بادي محمد الطيب وهو ابن عم عباس لزم وعملا معا في جامعة الخرطوم وتساكنا
كعزابة مع رهط من أهل قريتهم في العباسية بام درمان لا بل في بواكير شبابه عمل معه عباس ككورس وأحيانا ضابط إيقاع . أكاد أجزم انني لم أصادف في حياتي شخصا محبا لوظيفته متفانيا فيها مثل عباس الزين، ولعل هذا بشهادة كل من مر بمكتبة السودان ومن مختلف المستويات بكالريوس ماجستير دكتوراه ومؤلفين ومسؤولين. فعباس كان متجاوزا لمهمته الرسمية إذ كان سرعان ما كانت تنمو بينه وبين طالب الخدمة مودة وصداقة بعبارة أخرى انه يقدم الخدمة بمحبة وبالطبع هذا
يرجع لفطرته السمحة ولحبه للبحث والباحثين ومن أراد ان يستوثق من ذلك فليذهب الى مكتبة السودان ليجد في صفحة الشكر من كل رسالة اسم عباس الزين متحكرا فيها.

(4 )
منذ وقت بحث التخرج توطدت صلتي بعباس الزين وظللت على تواصل معه بيد انه في السنوات الأخيرة كنت لا أقابله إلا خطفا وفي كل مرة كنت أقابله فيها كان يطلب مني ان أمد المكتبة بما نشرته من كتب (ياخي سمعت انك طلعت حاطب ليل في مجلدات من فضلك أدينا نسخة لمكتبة السودان ياخي أنا مستعد أجيك في أي مكان عشان أشيلها منك) (تجيني ياعباس بالموريس ماينر بتاعتك المن سنة حفروا البحر ديك ؟ ) يضحك (ياخي الله يطراك بالخير انت من زمن الموريس ماينر .. لكن والله من شدة ما صبرت عليها الجماعة لقبوني بسيدنا ايوب) ( ياعباس والله انت سيدنا أيوب في كل تفاصيل حياتك ياخي ما كفاية صبرك على العزوبية) يضحك ( نعمل شنو عاد ما ياهو دا قدرنا ) (تعرف ياعباس انت ربنا أداك الكتير أداك الظرافة والأناقة والوسامة والأدب والطول الفارع والشعر السبيبي والصبر والتفاني في خدمة الآخرين لكن ما ممكن يديك كل شي كمان ) ( انت نسيت الشلوخ ورلا شنو؟) ( والله حتى شلخك مخالف من سماحته ).

(5 )
لقد شق علي نعي عباس الزين الذي طارت به الأسافير في الأسبوع قبل الماضي إذ تناقله محبوه وعارفو فضله وما أكثرهم على امتداد السودان وخارجه إذ يندر ان تجد باحثا أكاديميا في الدراسات الإنسانية لم يمر على مكتبة السودان فقد كانت الى وقت قريب مستودع المعرفة الوحيد بالسودان، وكان كل من ينعى عباس يعتبره صديقا خاصا . بصفة خاصة لقد أحزنني نبأ رحيل عباس لأنني لم التقه في السنوات الأخيرة، كما ان النبأ هيج في نفسي لواعج الذكرى، فتذكرت صديقي و صديقه محمد الشيخ إدريس (طه الجاك) الذي غادر هو الآخر هذه الفانية مثل عباس بكل هدوء مثلما دخلها ولم يترك مالا ولا عقارا ولا ولدا إنما محبة الناس فقط .

كان عباس موظفا في الخدمة المدنية مثله مثل آخرين كثر ولكنه كان يمتاز بان طبيعة وظيفته جعلته في خدمة العلم والعلماء وتحديدا في مجال المعرفة بالسودان بكل تفاصيله، ونشهد بانه قد أداها بمحبة وتفانٍ لذلك نعتبره شخصية قومية بامتياز.
فالدور والباقي على جامعة الخرطوم ان تبادل وفاء عباس بما يستحق ونرفع هذا الأمر الى صديقته وعارفة فضله وصديقتنا البروفيسور فدوى عبد الرحمن على طه مدير الجامعة . اللهم ارحم عبدك عباس الزين واسكنه الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ،وصادق تعازينا لأهلنا وأحبابنا بحلة عباس.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صحيفة السوداني

Exit mobile version