اخبار السودان لحظة بلحظة

عبداللطيف البوني يكتب: عماد الدين إبراهيم (لابد يوم باكر يبقالنا أخير)

(1 )

(جينا نخت في ايدينا الخضرا فوقك يا أرض الطيبين / يا بنوت الحلة العامرة أبشرن بينا عديلة وزين / افتحن البيبان والطاقة وامسحن الدمعة الحراقة / نحن البنحقق أمانينا / نزح الوجع المتحدينا / نشق الواطا نبل اشواقا ) لو لم يقل عماد الدين إبراهيم الذي رحل عن دنيانا الفانية الأسبوع الماضي غير هذا النص لكفاه شاعراً مجودا متفردا . لقد أظهر ولاءه للأرض ورهانه على المرأة (بنوت الحلة ) ثم يواصل الحوار الجندري المنحاز ( انتن نيل ساقيهو الغيمة … / ونحن النور شايلاهو عزيمة …) وللجميع قال ( الخير بيفوت لو اتراخينا…) الى أين (الواطا مشتاقة وبتنادينا …) ثم المهم ؟ (المطرة بتغسل خوفنا الفينا ..) يا له من مانفستو

اجتماعي اقتصادي سياسي صيغ لمخاطبة الوجدان، رحم الله عبد العزيز العميري الذي وضع لحنا لا يقل عبقرية عن النص.

(2 )

ويبدع عماد الدين إبراهيم عند عقد الجلاد عندما يقول ( لأنك عندي كل الخير / وجيهك فرحة الدنيا / ودواخلك ذي شعاع النور) ويبلغ حد الإعجاز (عرفتك وكنت ذي شفتك قبل القاك ) ويواصل التخيل والأمل (وزي انك بتنبعي من فرح جواي / وتمسحي عن رؤاي الضيم / وتضحكي للزمان الجاي) ويغوص أكثر (وتتفجر مسامك ضي / مع الصبح الغشانا شوي) ثم ينكر ذاته (كأني معاك كائن حي / وكأنه صفاك هو الحل ) حتى في الفراق يبقى الأمل معقود (أفارقك والزمان أجمل ….)

كما غنت له حنان النيل أشهر أغانيها (بلاد النور) والتي جاء فيها المقطع الذي وضعناه في العنوان (لابد يوم باكر يبقالنا أخير) وغنى له محمود عبد العزيز(سكت الرباب) وغنى له علي السقيد (ومضة خاطر) وفنانون آخرون ومن المؤكد ان لديه نصوصا غير ملحنة بيد ان الذي يميزه أن كل قصائده كأنها قصيدة واحدة مزج فيها بين المرأة والأرض والأمل، فالأرض عنده هي المرأة التي يبذر فيها الخير، والمرأة

عنده هي الأرض التي تتشكل فيها الحياة ولا أظن ان هناك شاعراً أوقف شعره

للأمل والتفاؤل مثل عماد الدين.

(3 )

انحيازه الكامل للمرأة يتجلى في مسرحياته التي أخرجها وقدمها للمشاهد السوداني إذ أوقف كل بطولاتها على النساء (عنبر المجنونات/ بيت بت المنى بت مساعد برلمان النساء / نسوان برة الشبكة / أمانة ما وقع راجل / ضرة

واحدة لا تكفي / موعودة بيك ) وشكل مع الفنان القدير عادل إبراهيم محمد خير ثنائية فريدة أنجبت مسرحا استعراضيا لم تشهد البلاد له مثيلا، والتقى مع الراحل المقيم المبدع سعد الدين ابراهيم في برلمان النساء ومع الفنان الكوميدي والشاعر الكبير جمال حسن سعيد في أمانة ما وقع راجل . لقد حظي مشروع عماد الدين المسرحي بقبول شعبي غير عادي بدليل انه كان يعتمد على الإنتاج الخاص وكانت

الصالة تمتلئ عن آخرها ويستمر العرض لشهور مثله مثل مسرح الفاضل سعيد وفرقة الأصدقاء.

(3 )

لقد تخرج عماد الدين ابراهيم من معهد الموسيقى والدراما وعمل معيدا به لفترة

قليلة ثم التحق بالإذاعة كمخرج لفترة أقل ولكن أمضى جل سنوات عمره بوزارة الثقافة والإعلام الولائية أمينا عاما للوزارة أو مديرا لتلفزيون واذاعة الخرطوم او أمينا لمصلحة الثقافة وكل هذه المناصب مناصب مدنية تم تسييسها اي أنه قد تسنمها بآلية سياسية، وهنا يثور السؤال هل كان عماد الدين سياسيا أو مسيسا ؟ في تقديري الإجابة لا ولا كبيرة بدليل ان كل منتوجه الإبداعي كان قوميا نابعا من وجدان وطني صميم وموجها للعقل والوجدان الجمعي السودان , علينا محاكمة عماد بما

قدمه من إبداع وليس بما تسنمه من وظيفة لأننا نحن هنا بصدد عماد الدين المبدع وليس عماد الدين الموظف، فعماد الدين اصبح مهيأ للعطاء في ظل نظام سياسي ليس له فيه يد وهو ليس بسياسي، وهنا حدث التلاقي التاريخي الحتمي بين الإنقاذ وعماد الدين فظل موجودا في بلاده متمسكا بمشروعه الإبداعي ليس هذا فحسب فلو تمعنا

في مشروع عماد الدين لوجدناه مشروعا تقدميا بجدارة لأنه يراهن على المستقبل

ودوما عنده ان أجمل الأيام هي القادمة ولخص ذلك في (لابد يوم باكر يبقالنا

أخير) ووضع المرأة في صلب مشروعه وراهن عليها مع الأرض، فكيف تكون

التقدمية ان لم تكن في إبداع عماد الدين ؟ هل تكون في البطاقة الحزبية ؟ من مثل عماد الدين قال إن التاريخ يمضي في خط مستقيم؟

(4 )

إن مسيرة عماد الدين إضافة لما أثرناه أعلاه تطرح عدة قضايا أخرى منها عدم

احتفاء المجتمع والدولة السودانية بالمبدع فأقل مظاهر هذا الاحتفاء هو ان تضمن له كسب عيشه من إبداعه بعبارة أي شاعر اليوم أو درامي مهما كان منتوجه الإبداعي لن يأكل منه عيش ولابد له من مهنة أخرى بعبارة ثالثة يستحيل في السودان ان يحترف الشاعر الشعر أو الدرامي الدراما لهذا ظل مبدع مثل عماد الدين كل عمره قابعا في الخدمة العامة من أجل المرتب الأمر الذي تسبب في قلة إنتاجه، فعماد الدين اكتسب مكانته من تفوقه الرأسي وليس الأفقي، ولو كانت بلادنا معطاءة للثقافة والفنون والإبداع لتفرغ عماد للإبداع وأنتج شلالات من القصيد والمسرحيات فمبدع قال في بواكير حياته (لابد يوم باكر يبقالنا أخير) كيف كان سيكون لو وجد تفرغا وعناية وهو في كهولته ؟ ان عماد الدين إبراهيم مشروع إبداعي لم يكتمل . رحمه الله رحمة واسعة وأنزل شآبيب رحمته على قبره الطاهر

وجعل البركة في ذريته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صحيفة السوداني

اترك رد